:الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد
فمن المسائل المهمة التي انتشرت في الآونة الأخيرة مسألة تزكية العلماء للشخص الذي يريد التصدي للتدريس في العلوم الشرعية؛ وهذه المسألة لا شك أنها من الأصول العظيمة في ضبط مصادر التلقي، وهي ليست وليدة اللحظة، بل قررها العلماء سلفا وخلفا، ومن ذلك ما أخرجه مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه تحت باب : الإسناد من الدين ( ص 9 ) عن ابن سيرين رحمه الله : ” إن هذا الأمر دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم.” وما أخرجه الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب الكفاية (ص 288) عن ابن جابر رحمه الله: “لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له بالطلب.” وما أخرجه القاضي عياض رحمه الله في المدارك (ج 1 ص 140) عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: “ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، والجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلا جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم، أني موضع لذلك
وغير ذلك من الآثار الكثيرة في هذا الباب؛ كل ذلك بهدف سد باب أخذ العلم عن أهل البدع والمجاهيل والمفاليس، وعليه فلا خلاف في اشتراط الأهلية للتدريس، من التأصيل العلمي، والمعرفة بالسنة، وسلامة المعتقد، ولكن تحت هذا الباب فروع كثيرة تحتاج إلى تجلية وإيضاح وبيان، وخاصة مع كثرة خوض الصغار والمندفعين من غير تأصيل وفهم وعرفان
:الفرع الأول : بيان الطرق التي تثبت بها التزكية
:الطرق التي تثبت بها التزكية كثيرة، أشار إليها علماء الحديث في صفة من تقبل روايته، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، والمتفق عليه طريقتان، جمعها السيوطي رحمه الله في ألفيته (ص 344) بقوله
واثنان إن زكاه عدل والأصح إن عدل الواحد يكفي أو جرح
أو كان مشهورا وزاد يوسف بأن كل من بعلم يعـــــــــــرف
الطريقة الأولى : التنصيص من العلماء المعتبرين بأن فلانا مزكى، وصاحب علم وسنة، ويؤخذ عنه العلم، ويصلح للتدريس، على خلاف معروف في عدد المزكين
الطريقة الثانية : الشهرة والاستفاضة بالعلم والسنة، فيعرف الشخص بالتعليم والتدريس لكتب السنة المعروفة، ولم يعرف فيه جرح معتبر
وقد عقد الخطيب في الكفاية (ص 286) بابا لطيفا، بعنوان: “باب في أن المحدث المشهور بالعدالة والثقة والأمانة لا يحتاج إلى تزكية المعدل.” وبعد أن ذكر جملة من علماء الحديث والسنة، قال: “ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر، واستقامة الأمر، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم، لا يسأل عن عدالتهم، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين، أو أشكل أمره على الطالبين
ونحو هذا الكلام ما جاء عن الشيخ عبد المحسن العباد في شرح سنن ابن ماجه ( في الشريط رقم 284 )؛ حيث قال: “لكن إذا كان مجهول أمره، والناس غير مرتاحين له، وأرادوا أن يتعرفوا، وهو مجهول عندهم، وأرادوا أن يعرفوه عن طريق بعض الناس المعروفين الذين أتى بشيء يبين أنه أهل، وأنه يستفاد منه هذا، وإلا إذا كان الإنسان عنده قدرة، وعنده تمكن، ولا يكون عنده محذور، يجوز وإن لم يكن معه تزكية
وقال الشيخ عبيد الجابري ( في شريط : اللقاء المفتوح الثالث مع أهل ليبيا بتاريخ 29 محرم 1433هـ ) : “يحتاج إلى التزكية المجهول، سواء كان وافدا على القطر أو في قطره، أما من عرف؛ فإن كان خارج قطره، والعلماء علموا أنه يدرس، وأنه يلقي الدروس من الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح فهذا لا مانع أن يدرس، إن شاء الله تعالى، وكذلك لا مانع من الجلوس إليه حتى يجرحَه علماء القطر
فتبين مما سبق أن الشخص تثبت تزكيته إما بالتنصيص أو الشهرة والاستفاضة، ومن الخطأ البين قصر التزكية على التنصيص فقط
ولو قصر على النوع الأول لحصل به سد أبواب عظيمة للخير، وما أجمل كلام الشيخ سليمان الرحيلي ( كما في الشريط الثامن من دورة: المعاملات المالية في الإمارات على الرابط التالي : http://goo.gl/iPySyE ) في هذا، حين قال: “وليس كلُّ طالبِ علمٍ نافعٍ يعرفُه العلماء، ولكنْ يُنظرُ في علمِه الذي يبُثُّه، هل يُعلِّم السنة؟، هل يحترم آراء علماء السنة؟ ، هل ينقُل كلام علماء السنة؟ فإنْ كان ذلك كذلك فقد زكَّاهُ علمُه، ويُؤخذ عنه العلم. والقول بأنَّه لا يؤخذ العلم إلا عمَّن زكَّاه العلماء نصًّا يَسُدُّ بابَ الخير. فكثير من البُلْدَان فيها طلاب علم يُعلِّمون السنة، وشروح أهل السنة، ويُعلِّمون بحَسَبِ ما تعلَّموا، ولكنَّهُم لا يحمِلُون تزكيةً من عالم معين، لكنْ لم يُعْرَفْ عليهم ما يَجْرَحُهُم في علمهم . فإذا قلنا: (إنه لا يؤخذ العلم عنهم)، لن يبقى علمٌ في كثيرٍ مِن البُلْدَان، وسيُسَدَ باب الخير، ويقوم أهل البدع ويدرِّسُون، وأهلُ السنة يكُفُّون، ويُصبح أهلُ السنة يتعلمون مِن أهل البدع، أو يتعلمون من الإنترنت أو غيرِه ، وهذا لا يصح ولا يستقيم
:الفرع الثاني : بيان أن الشهرة نسبية
عرفنا في الفرع السابق أن التزكية تثبت بالشهرة والاستفاضة، وهذه الشهرة قد تكون عامة بأن يشتهر الشخص بين أقطار كثيرة، ويعرف بالعلم والسنة، وقد تكون الشهرة خاصة بين مشايخ قطر معين، وكلاهما يثبت بهما التزكية، قال الشيخ عبيد الجابري في تسجيل صوتي (على الرابط التالي : http://goo.gl/1r96BP ) : “ثم أهل القطر الفضلاء يعرِفون صاحب الدعوة، يعرفون إلى أي شيء يدعو، فإذا كان يقول لهم: قال الله، وقال رسوله، ويعلمهم أحكام الله، فإنهم يلتفون حوله، ويجتمعون عليه، ويرزق منهم القبول، وينال عندهم الحظوة، والكل يذكره بخير، هذه التزكية
: وقال الشيخ محمد بن هادي ( في تسجيل صوتي بتاريخ 6 / ذو القعدة / 1433هـ ) : على الرابط التالي
السّائل : “بعض إخواننا -شيخَنا- غير معروفين بهذا، مثلاً، قد درس، وعُرف بين إخوانه بالعقيدة الصّحيحة، والمنهج السّليم، وإخواننا يعرفون أنّ تدريسه فيه خير كثير، والعُلماء لا يعرفونه، فكيف نستطيع أن نتحصّل له على تزكية في هذه الصّورة؟
:هذا يكون بمسلكين
المسلك الأوّل : الاشتهار بالعِلم، والتّدريس، والقعود للنّاس في هذا الباب
الثّاني : التّزكية
فإذا لم يكُن معروفًا، ولم يكُن مُزكّى، هذا لا يكون أهلاً للفتوى مهما كان، أمّا إذا اشتهر بين النّاس بالعِلم وبالتّعليم والاجتهاد في ذلك وعُرف به هذا كافٍ لأهل بلده
“السّائل : “هُو ليس له تزكية، حتّى في مسألة التّدريس ليس عنده تزكية من أهل العلم في التّدريس أصلاً؟
“ما يُؤخذ إلاّ عمّن عُرف، واشتهر بذلك، أو شهِد له أهل العلم بذَلك، هذا لابُدَّ منه
“السّائل : “إذا عُرف بصحّة العقيدة، والمنهج، ولم يعرفه أحدٌ من العلماء، وشهد له باقي إخوانه بصحّة العقيدة والمنهج؟
“الاشتهار، يقصدون به الاشتهار في القُطر الذي هُو فيه، يشهد له النّاس بالعِلم والمعرفة
الفرع الثالث : بيان أن التزكية لا تنحصر في علماء معينين
إذا صدرت التزكية من عالم، ثقة، عارف، حاذق فهي معتبرة، ولا يصح تخصيص التزكية بعلماء معينين دون غيرهم، بل هو ضرب من التعصب، ونوع من التحزب. قال الشيخ سليمان الرحيلي (في الشريط السابق): “ولا نحصُر التزكية في عالمٍ، ولا عالمَيْن، ولا ثلاثة، بل أنْ ينص عالم من العلماء المعتبرين، أو جَمْعٌ منهم على أنَّ فلانًا مُزَكَّى، ويصْلُح لأنْ يُؤخذ عنه العلم
الفرع الرابع : بيان أن التزكية قد تتغير بتغير الشخص
العلماء يزكون الشخص بما يظهر من حاله، ويزكونه في حالة سلامته من الجرح القادح، فإن تغير حال الشخص – نسأل الله الثبات على السنة– فإن التزكية القديمة تتغير بتغير حاله
الفرع الخامس : بيان أن التزكية المبهمة في مقابل الجرح المفسر غير معتبرة
لو عرف الشخص بجرح مفسر؛ كأن يرى الخروج على ولاة الأمر، أو موالاة الأحزاب الباطلة، أو غيرها من صور الجرح، ثم جاء عالم وزكاه، فإن هذه التزكية لا تقاوم الجرح المفسر، الذي عرف به الشخص، ويجري فيه على القاعدة المعروفة في علم الجرح والتعديل: ” أن الجرح المفسر مقدم على التعديل المبهم
وبعد، فهذه وقفات سريعة، وتجلية لطيفة، لمسألة التزكية، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص