خامسا : تاريخ الفقه الإسلامية
: قسم بعض الباحثين تاريخ الفقه وبيان أطواره بحسب الزمان إلى
أولا : عصر النبوة
“هو الأساس الذي بني عليه الدين كله، فقد أكمل الله فيه الدين فقال تعالى :” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
:في هذا العصر نلاحظ ما يلي
يأمر الله سبحانه وتعالى بالعبادات في القرآن إجمالا ثم يأتي البيان في القرآن أو في السنة
مثال ذلك الصلاة ، قال تعالى : “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ” فهذا أمر مجمل، ثم جاء بيان أحكامها في القرآن وفي السنة ، قال تعالى : “إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا” ثم بين الله هذه الأوقات إجمالا فقال :أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ” ثم جاءت السنة ببيان هذه الأوقات تفصيلا في حديث جبريل عليه السلام كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ” أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ، فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ، وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ … وفي نهاية الحديث قال : مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتٌ “
وكذلك الصوم والحج وبقية الأحكام
وقد تأتي الأحكام مفصلة كأحكام المواريث والأسرة من زواج وطلاق
يسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الوقائع التي تنزل بهم فيزل الله الحكم إما في الكتاب أو بالسنة
مثال ذلك قوله تعالى : “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ” وقوله تعالى : ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في بعض المسائل التي تقع أو تعرض عليه، فينزل الوحي إما مقرا له أو مصوبا لاجتهاده .
كاجتهاده في أسرى بدر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا
اجتهد بعض الصحابة رضوان الله عليهم في بعض المسائل التي وقعت لهم ولم يكن استطاعة لعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حضروا عنده أخبروه الخبر فيصوب بعضهم ويخطئ بعضهم
مثال ذلك : ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخُدريِّ، قال: خرجَ رجلانِ في سفَرٍ، فحَضَرَتِ الصَّلاةُ وليسَ معهما ماءٌ، فتَيَمَّما صَعيداً طيباً، فصَلَّيا، ثمَّ وَجَدا الماءَ في الوقتِ، فأعادَ أحدهما الصَّلاةَ والوضوءَ، ولم يُعِدِ الآخَرُ، ثمَّ أتيا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يُعِدْ: “أصَبتَ السُّنَّةَ وأجزَتْكَ صَلاتُكَ” وقال للذي توضَّأ وأعادَ: “لكَ الأجرُ مَرَّتين
وعن عمرو بن العاص، قال: احتَلَمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غَزوةِ ذاتِ السَّلاسِلِ فأشفَقتُ أنْ اغتَسِلَ فَأهلِكَ، فتَيَمَّمتُ، ثمَّ صَلَّيتُ بأصحابي الصُّبحَ، فذكروا ذلك للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -, فقال: “يا عَمرو، صَلَّيتَ بأصحابِكَ وأنت جُنُبٌ؟ ” فأخبَرتُه بالذي مَنَعَني مِنَ الاغتِسالِ، وقلتُ: إني سمعتُ اللهُ يقولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّة كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضَحِكَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -ولم يَقُل شيئاً
ثانيا: عصر الصحابة
هذا العصر يبدأ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويمتد إلى نهاية القرن الأول للهجرة تقريبا
وفي هذا العصر سار الصحابة على المنهج الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنباط والاجتهاد، فكانوا ينظرون فيما يعرض لهم من مسائل هل ورد فيها نص من كتاب أو سنة فيأخذون به فإن لم يظفروا بشيء من ذلك اجتمعوا وتباحثوا الأمر فيجتهدون ويصدرون الحكم
روى الدارمي عن مَيْمُون بْن مِهْرَانَ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ، قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ سُنَّةً، قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ، خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: «أَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟» فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ قَضَاءً. فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا،» صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ” فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ، قَضَى بِهِ
هذا الأثر منقطع فميمون لم يدرك أبا بكر إلا أن معناه صحيح ويدل عليه ما رواه ابن ماجة عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ
ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِلَى عُمَرَ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا، وَلَكِنْ هُوَ ذَاكِ السُّدُسُ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ، فَهُوَ لَهَا
واشتهر في هذه الحقبة من الزمن جملة من العلماء والمفتين، منهم المكثر ومنهم المتوسط ومنهم المقل
قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين : وَاَلَّذِينَ حُفِظَتْ عَنْهُمْ الْفَتْوَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِائَةٌ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ نَفْسًا، مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَكَانَ الْمُكْثِرُونَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
وعنهم انتشر العلم في أنحاء الدنيا ، قال ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/38
وَالدِّينُ وَالْفِقْهُ وَالْعِلْمُ انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ فَعَلِمَ النَّاسُ عَامَّتَهُ عَنْ أَصْحَابِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَعِلْمُهُمْ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وفي هذه الفترة اتسعت رقعة الدولة الإسلامية خصوصا زمن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وظهرت الفتن في نهاية خلافة عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما، واستجدت حوادث ونوازل احتاجت للاجتهاد واستنباط الأحكام ظهر في هذه الحقبة الإجماع كمصدر من مصادر التشريع واستعملت المصالح المرسلة والقياس
ووقع في هذه الفترة بعض الخلاف في مسائل الفقه وهذا ناتج عن اختلاف الفهم للنصوص، كالخلاف الواقع بين زيد ابن ثابت وعبد الله ابن عباس في ميراث الجد وهل هو كالأب يجب الأخوة أم لا ؟
في هذه الفترة لم يدون الفقه وإنما كان مجرد مسائل تنقل بالرواية، غير ما وجد من بعض الرسائل التي احتوت على بعض الأحكام الفقهية كما في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء
ثالثا: عصر التابعين
(يبدأ هذا العصر بوفاة الصحابة رضوان الله عليهم ما بين عام 90 إلى 100 للهجرة ، وبعضهم يذكر أن بدأ هذا العصر كان بتولي معاوية رضي الله عنه للخلافة، ويسميه (عصر صغار الصحابة وكبار التابعين
في هذه الفترة برز تلاميذ الصحابة من التابعين منهم : سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة ويسمى راوية عمر بن الخطاب فقد كان من أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
وعروة بن الزبير والحسن البصري و عطاء بن أبي رباح فقيه مكة وإبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة وغيرهم كثير
وعرف في هذه الفترة ما سمي بالفقهاء السبعة وهم : بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبوبكر بن عبد الرحمن ابن الحارث وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد بن ثابت
وظهر في هذه الفترة قول الصحابي كمصدر من مصادر التشريع، إذ كان التابعون يسيرون على منهج الصحابة رضوان الله عليهم في الفقه، وزادوا على ذلك الأخذ بأقوال كبار الصحابة وفتاواهم فيما لا نص فيه
بل ربما أفتى كبار التابعين بحضور بعض الصحابة كما ذكر ذلك ابن القيم فقال : وَأَكَابِرُ التَّابِعِينَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي الدِّينِ، وَيَسْتَفْتِيهِمْ النَّاسُ، وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ يُجَوِّزُونَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ أَخَذَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ ” الإعلام 2/45
تميز هذا العصر بكثرة المستجدات والنوازل نتيجة اتساع رقعة الدولة الإسلامية
رابعا: عصر التدوين والأئمة المجتهدين
يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني الهجري ويمتد إلى منتصف القرن الرابع، ويتميز بظهور المذاهب الفقهية وتدوين الفقه
فبرز بعض العلماء الذين اشتهروا بالعلم والفتيا، وكان لهم تلاميذ أخذوا العلم عنهم مثل الأوزاعي وسفيان بن عيينة واسحاق بن راهويه وأبو حنيفة ومالك بن انس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل وداوود الظاهريوغيرهم ، لكن تميز بعضهم بوجود تلاميذ اعتنوا بآراء علمائهم وتقعيداتهم فبرز منهم
أبو حنيفة في الكوفة و مالك بن أنس في المدينة والشافعي في العراق ومصر وأحمد بن حنبل في بغداد
وظهر في هذه الفترة الزمنية تدوين الفقه فألف الإمام مالك كتابه الموطأ فكان أول كتاب جمع الحديث على أبواب الفقه ، وكذلك كتاب الرسالة في أصول الفقه للشافعي وبعض الرسائل الأخرى التي ألفها ثم جمعت في كتاب الأم، وكتاب الخراج للقاضي أبي يوسف الحنفي وكتب محمد بن الحسن الحنفي في المذهب وغيرها
خامسا: عصر الجمود والتقليد
وهو الذي يمتد من منتصف القرن الخامس وينتهي بسقوط بغداد عام 656 هـ تقريبا
حيث رأى أهل هذا العصر أن المذاهب قد استقرت وأن أصولها كافية لتطبيق الشرع، حتى أصبحت الشريعة منحصرة في نصوص الفقهاء وأقوالهم، ووقع التعصب المذهبي المقيت
وتميزت هذه المرحلة بازدهار حركة التدوين فظهرت المتون الفقهية والمختصرات وشروحها والحواشي عليها وظهرت كتب الفتاوى وقنن الفقه
وظهر في هذه المرحلة بعض العلماء الذين حاربوا التقليد ودعوا إلى الاجتهاد على رأسهم شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله
سادسا: العصر الحاضر
وفي هذا العصر وقع تجديد للفقه الإسلامي ، تمثل في الدعوة إلى الاجتهاد والاستنباط والبعد عن التقليد المذموم، وأسست الجامعات التي تعتني بتدريس فروع علوم الشريعة، وتدرجت في الدرجات العلمية إلى الدكتوراة ، وكثرة المؤلفات الفقهية والشروحات والأبحاث المتخصصة في جزئيات الفقه وبأسلوب موسع، وتأسست المجامع الفقهية، وظهر الاجتهاد الجماعي
:مسألة : يذكر كثير من الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي ظهور مدرستين فقهيتين
الأولى : مدرسة الحديث ومركزها المدينة النبوية، وسميت بذلك لاعتمادها على النصوص من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن الصحابة وعدم استعمالهم الرأي غالبا في الأحكام
الثانية: مدرسة أهل الرأي ومركزها الكوفة والتي تعتمد الرأي والتعليل والإكثار من القياس وأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد
ويرجعون نشأة هذه المدارس إلى عصر التابعين ، وبعضهم يرجعها إلى عصر الأئمة المجتهدين
:وبالنظر إلى تراجم الأئمة المجتهدين والوضع العلمي لتلكم الحقبة الزمنية نلاحظ ما يلي
أولا : اتفاق جميع الأئمة على الأخذ بالمصادر الأصلية في الاستنباط وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة في الجملة
ثانيا : القياس من الأصول المتفق عليها بين جميع الفقهاء ما عدا الظاهرية، وهو من قبيل المصادر العقلية لا النقلية
وإذا نظرنا إلى المذهب المالكي فنجد أن من مصادر الاستنباط التي يعتمد عليها المصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع
وكذلك المذهب الشافعي والحنبلي وهي أدلة تعتمد على الرأي
ثالثا : جميع الأئمة الأربعة درسوا الرأي ، فأبو حنيفة أكثر من اشتهر بالرأي والأخذ بالادلة العقلية ، والإمام مالك درس على شيخه المنسوب للرأي وهو ربيعة الرأي ، والشافعي درس على محمد بن الحسن الحنفي وحفظ كتبه، وألف في علم أصول الفقه ووضع كتابه الرسالة وفصل في القياس ووضع ضوابطه بل فاق فيه الحنفية ، وكذلك الإمام احمد قال عنه الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها ” ودرس على شيخه الشافعي طرق الاستنباط وضوابطه
رابعا: ما يقال عن قلة الأحاديث في الكوفة حتى اعتمدوا على الرأي محل نظر ، فالرحلات العلمية كانت قائمة بين المدينة والعراق والمكاتبات بين العلماء معلومة، فهذا الحسن البصري وهو في العراق كان إذا أشكل عليه شيء كتب به إلى سعيد بن المسيب في المدينة ، ومحمد بن الحسن الحنفي دارس الإمام مالك بل وروى عنه الموطأ ، وهذا عالم الشام مكحول الدمشقي يقول : ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أن ليس بها علم إلا وقد سمعته” وعالم الكوفة عامر بن شراحبيل الشعبي يقول : ” أقمت بالمدينة مع عبد الله بن عمر ثمانية أشهر”
خامسا : التفرقة بين المدرستين بمعيار القول بالتعليل ، وأن مدرسة الحديث تعتمد على النصوص فقط ولا يلجئون للرأي إلا عند الضرورة القصوى ، وأن مدرسة أهل الرأي يرون أن الشريعة معقولة المعنى ولها علل ويكثرون من الأقيسة والأدلة العقلية ، تفرقة لا يساندها الدليل
فالتعليل والقول بالرأي كمنهج في الاجتهاد لم يختلف عليه أهل الحجاز وأهل العراق في تلكم الفترة، فكانوا يناقشون النصوص ويأخذون بها على ظاهرها تارة وقد يصرفونها عن الظاهر أخرى، ويتجهون إلى الرأي عند عدم النص لا فرق بين حجازي وعراقي
ينظر بحث : المدارس الفقهية في عصر التابعين (أهل الحديث) و (أهل الرأي) قراءة نقدية في مراجع تاريخ الفقه الإسلامي الحديثة . د حميدان بن عبد الله بن محمد الحميدان