بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد
إن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بعبادته وحده لا شريك له، فأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وخالف بينهم إذ جعل لكل منهم شريعة ومنهاجا قال تعالى : “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ” ، ولكن الدين واحد عند الله وهو الإسلام قال تعالى : “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ” ، كما قال صلى الله وسلم واصفا “الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ ” رواه مسلم . فأمهاتهم شتى وأبوهم واحد، ولأجل ذلك وجدت علاقة بين هذه الملل وهي اليهودية والنصرانية والإسلام اقتضت تعاملا خاصا فيما بينهم، مع هيمنة شريعة الإسلام على بقية الشرائع لأنه خاتمها
ولكن الناظر في تاريخ الأديان يرى انتهاكا لهذه العلاقة بين اليهود والنصارى، وبين النصارى أنفسهم، فاندلعت بينهم الحروب، وسفكت الدماء، وظهرت العداوة بينهم
أما الإسلام فقد تعامل مع اليهود والنصارى تعاملا فريدا من نوعه، قام على الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، لكونهم أصحاب كتب سماوية أنزلت على رسلهموأود من خلال هذا المقال أن أبين مظاهر التسامح وحسن المعاملة التي لقيها اليهود والنصارى في بلاد الإسلام
حِل طعام أهل الكتاب ونسائهم لأهل الإسلام قال تعالى : ” وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ
مشروعية التعاملات التجارية معهم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ” رواه البخاري
” أمر الله بدعوتهم إلى الإسلام، وبحسن مجادلتهم وحوارهم، قال تعالى :” وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
مشروعية زيارتهم والاطمئنان عليهم حال مرضهم ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ ” رواه البخاري
الإحسان في جوارهم، وعدم إيذائهم، بل وإهداؤهم ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أَنَّهُ ذُبِحَت لَهُ شاةٌ فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصينى بِالْجَارِ حَتى ظَنَنتُ أنه سَيَورِثُه ” رواه البخاري في الأدب المفرد
حمايتهم وحفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم طالما كانوا يعيشون في دولة المسلمين، وتحريم الاعتداء عليهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ” رواه البخاري
“وقال صلى الله عليه وسلم: ” «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مضاعفة الأجر لمن آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: وذكر منهم ” مُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ ” رواه البخاري ومسلم
” عدم إكراههم على ترك دينهم واعتناق الإسلام، بل يخيرون بين الإسلام أو دفع الجزية، وهذا في حال قوة الدولة المسلمة ، قال تعالى : ” فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
مشروعية عقد المعاهدات معهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة
أوجب الإسلام العدل مع أهل الكتاب، ولو اقتضى الأمر أن يحكم للكتابي على المسلم، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وفي البخاري عن الأشعث بن قيس قال :كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قُلْتُ: لَا . قَالَ : فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ . قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
هذه بعض مظاهر التسامح التي جاءت بها شريعة الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى، فيهدف الإسلام إلى استمالتهم إلى هذا الدين لأنهم من أقرب الناس إليه، إذ يقرون في أنفسهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يجحدونها حسدا وكبرا، كما قال تعالى : “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
ولو نظرنا في تاريخنا الإسلامي لوجدنا صورا عظيمة ومشرقة لتعامل الخلفاء وقادة الجيوش الإسلامية مع دول أهل الكتاب التي تم فتحها، إذ أعطوهم الأمان، ولم يهدموا كنائسهم ولا أمكان عباداتهم، ولم يجبروهم على الدخول في دين الله، بل خيروهم بين الإسلام أو دفع جزية يسيرة، يعفى منها العجزة والأطفال والنساء
ولكن
ما هو حدود هذا التسامح ؟
هذا ما سنتعرف عليه في المقال الثاني بإذن الله تعالى