المصدر الثالث: الإجماع
هو الأصل الثالث من الأصول التي تستمد منا الشريعة الأحكام ، ويذكره علماء الأصول بعد الحديث عن الكتاب والسنة
تعريفه : اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من أمور الدين .
قوله ” اتفاق ” ليخرج الخلاف في المسألة
مجتهدي : ليخرج غيرهم، والمجتهد هو الفقيه الذي استكمل شروط الاجتهاد .
العصر : أي الفترة الزمنية التي وقعت فيها تلكم الحادثة.
من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: يخرج المجتهدين من أتباع الأمم الأخرى كاليهود والنصارى فلا يعتد بخلافهم أو إجماعهم.
بعد وفاته : فلا إجماع في حياته صلى الله عليه وسلم .
في أمر من أمور الدين: قيد يخرج الإجماع في الأمور غير الشرعية ، فالإجماع الشرعي هو ما كان في الأمور الشرعية فقط .
وهو حجة قد دل على حجيته الكتاب والسنة .
فمن الكتاب قول الله تبارك وتعالى : ” وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا “
الله توعد بالعذاب من شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين أي الطريق الذي اختاروه لأنفسهم ، وهذا يدل على وجوب متابعتهم سبيلهم وعدم مخالفته ، ولا يصح إطلاق القول بأن ذلك القول أو الفعل هو سبيل المؤمنين إلا باجتماع قولهم أو فعلهم على رأي موحد.
ومن السنة قال صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار ” رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم والألباني .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة أبدا، فدل على أنها معصومة إن اجتمعت على أمر .
وللإجماع أقسام بعدة اعتبارات منها :
أولا باعتبار صدوره من أهله ينقسم إلى :
إجماع الأمة : بأن يجمع المجتهدون من هذه الأمة على حكم مسألة ما
إجماع الصحابة: قال الشوكاني: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف
إجماع أهل المدينة : وهو اتفاق أهل المدينة في القرون المفضلة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما إذا خالفهم آخرون في أمر من أمور الاجتهاد
اشتهر به الإمام مالك بن أنس كأصل من أصوله وأكثر من الاستدلال به في الفروع الفقهية
:وقد قسم ابن القيم عمل أهل المدينة إلى ثلاثة أقسام
الأول: أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيره
الثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم
الثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم
فأما الأول فهو حجة بلا شك
أما الثاني فحمل خلاف بين المالكية والجمهور
أما الثالث فلا عبرة به إذ أن قول البعض ليس بحجة على الآخرين .
:ثانيا : باعتبار النطق به ينقسم إلى
أولا : الإجماع الصريح أو اللفظي
وهو اتفاق مجتهدي الأمة في عصر ما على حكم شرعي عن طريق إبداء كل منهم رأيه صراحة
وهو الذي يعتبر في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة .
الثاني : الإجماع السكوتي
وهو أن يعمل بعض المجتهدين في عصر عملا أو يبدي رأيا صريحا في مسألة اجتهادية ويسكت الباقي من المجتهدين بعد علمهم بذلك الرأي
وهو محل اختلاف بين العلماء هل هو إجماع وحجة أم لا ؟
الاعتبار الثالث : من حيث القطع والظن
الإجماع القطعي وهو المنقول بالتواتر، المصرح به من قبل المجتهدين لا أن يكون سكوتيا ، وأن يكون مستند الإجماع دليلا قطعيا
الإجماع الظني : ما اختل فيه أحد الشروط السابقة كالإجماع السكوتي ونحوه ..
ولأجل إعمال الإجماع كمصدر ودليل في الاستدلال الفقهي لا بد من التحقق من صحته، لأن مجرد حكاية الإجماع لا تكفي ، حيث يحكي بعض العلماء الإجماع ويريد به الجمهور، وبعضهم يحكي الاتفاق ويعني علماء المذهب كالكاساني الحنفي ي كتابه بدائع الصنائع إذ قد يحكي الإجماع ويريد إجماع علماء المذهب الحنفي دون غيرهم
وبعض الفقهاء يستعمل الاجماع في اتفاق مجتهدي الأمة ويستخدم لفظ (الاتفاق) للاتفاق بين علماء المذهب كالعيني في كتابه البناية في الفقه الحنفي ، مثال : قال : ” لو أمنى بعد البول أو النوم لا غسل عليه بالاتفاق، وعند الشافعي يجب في الحال ” فحكى الخلاف بعد ذكر الاتفاق في نفس السياق.
ومن الدراسات الحديثة التي اعتنت بدراسة تحقق الإجماع من عدمه دراسة بعنوان : موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لمجموعة من الباحثين بلغت عشر مجلدات طبعت في دار الفضيلة .
ومن العلماء الذين ينقلون الإجماع :
ابن المنذر في كتبه وخصوصا كتاب الإجماع ، وله الأوسط والإشراف على مذاهب العلماء
النووي في المجموع وفي شرحه على مسلم
ابن قدامة في المغني
ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع والمحلى
وابن عبد البر في كتابه الاستذكار
رابعا : القياس
تعريفه هو : إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
الفرع : المقصود به هنا : المقيس، أي الصورة أو المسألة التي يراد إثبات حكمها بالقياس.
الأصل : المقصود به هنا : المقيس عليه، أي : الصورة أو المسألة التي ثبت حكمها بنص أو إجماع، أو اتفق عليه الخصمان المتناظران.
الحكم المقصود به هنا : أي حكم من الأحكام الشرعية، كالوجوب والتحريم والندب.
العلة : المراد بها هنا : المعنى الذي ثبت الحكم في المسألة المقيس عليها لأجله، سواء عرف ذلك بنص أو باجتهاد ونظر.
فمعنى التعريف : أن القياس هو تسوية المجتهد في الحكم بين مسألتين : إحداهما ثبت حكمها بنص أو إجماع أو اتفاق من المتناظرين، والأخرى لا نص فيها، فيقوم المجتهد بإلحاقها بالأولى المتفق على حكمها لأجل اشتراك المسألتين في الوصف الذي يغلب على الظن أنه علة ثبوت الحكم في المسألة المقيس عليها.
مثال : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البر بالبر مثلا بمثل » الحديث، فقاس جمهور العلماء الذرة على البر، وحكموا بتحريم بيعها بجنسها مع التفاوت في المقدار، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، فالأصل في هذا المثال البر، والفرع الذرة، والعلة الجامعة أن كلا منهما مكيل يمكن ضبط مقداره بالكيل، والحكم هو تحريم التفاضل إذا بيع بجنسه.
حجيته :
القياس الصحيح حجة شرعية ودليل يعتمد عليه في تقرير الأحكام واستنباطها وقد دل على ذلك الكتاب والسنة
أما الكتاب فقول الله تعالى : ” فاعتبروا يا أولي الأبصار”
وجه الدلالة : القياس فيه معنى المجاوزة والتعدية، والمجاوزة اعتبار ، والاعتبار مأمور به، فيكون القياس مأمور به ، وما أمر به فهو معتبر شرعا ويعمل به
ومن السنة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» ، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» ، قَالَ: فَإِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: «فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا قَالَ: «فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» ، قَالَ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ قَالَ: «فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا قَالَ: «فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا قَالَ: «فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ»
وجه الدلالة : النبي صلى الله عليه وسلم قاس الغلام الأسود على البعير الأورق ، بجامع العرق الذي نزع كل واحد منهما ، ونبه الرجل على أن يحكم للغلام بحكم نظيره .
ومنه كذلك عنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : هَشِشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ : إِنِّى صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْراً عَظِيماً قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ. قَالَ :« أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ ». قُلْتُ : إِذاً لاَ يَضِيرُ. قَالَ :« فَفِيمَ؟ »
فالنبي صلى الله عليه وسلم قاس حكم القبلة في رمضان على المضمضمة بجامع عدم التفطير، فكما أن المضمضة لا تفطر الصائم فكذلك القبلة .
وهنا مسألة تتعلق بالقياس وهي هل يقع القياس في العبادات ؟
وذلك لأن القياس مبني على وجود العلة ، والعبادات العلة فيها تعبدية محضة .
لذلك قرر العلماء أنه لا يمكن إثبات عبادة مستقلة بالقياس ولكن قد يجري القياس بين الشروط والأسباب ونحوها إذا أمكن تعليلها مع تساوي العبادات في المعنى
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” المراد بقول أهل العلم لا قياس في العبادات أي في إثبات عبادة مستقلة، أما شروط في عبادة وما أشبه ذلك مع تساوي العبادتين في المعنى فلا بأس ، وما زال العلماء يستعملون هذا كقولهم: تجب التسمية في الغسل والتيمم قياسا على الوضوء “
(الشرح الممتع 6/524 )
ومثاله كذلك ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم إلى جواز الاستنجاء بغير الماء والحجر من الجمادات الطاهرات غير المحترمة كالورق والخرق ونحوها .
وعللوا ذلك بأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى، والمعنى هاهنا إزالة عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله بها ..” (ابن قدامة .المغني . 1/200 )
ومثله تثنية الخطبة في العيدين ، فالأئمة الأربعة وغيرهم على أن خطيب العيد إذا صلى العيد قام فخطب خطبتين كالجمعة، ومستندهم القياس .
وتوجد بعض مسائل العبادات وقع فيها خلاف في استعمال القياس .
(ينظر للفائدة : القياس في العبادات وتطبيقاته في المذهب الشافعي . رامي بن محمد جبرين . دار ابن حزم )
هذه الأدلة المتفق عليها في باب الاستدلال لأحكام الفقه .
:وأما غير المتفق عليها فهي
1 – الاستصحاب وهو : الحكم باستمرار وجود ما ثبت وجوده ، حتى يدل الدليل على ذهابه، والحكم باستمرار عدم ما لم يثبت وجوده حتى يقوم الدليل على وجوده
مثاله : لو ادعى شخص على آخر دينا فأنكر المدعى عليه فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته حتى يثبت قوله بالبينة
لو تطهر مصل ثم شك في الحدث فإنه يحكم له باستصحاب الطهارة حتى يثبت خلاف هذا الوصف .
2- شرع من قبلنا : وهو ما نقل إلينا من أحكام شرائع الأمم السابقة التي كانوا مكلفين بها على أنها شرع لهم، فهذه الأحكام هل تكلف بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم خاصة بأممهم .
3 – قول الصحابي : اتفق الفقهاء على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين
واختلفوا إذا ورد عن الصحابي قول في مسألة ولم يكن فيه مخالفة صريحة لدليل شرعي ولم يعلم اشتهاره بين الصحابة ، ثم شاع ذلك القول بعدهم في التابعين ، ولم يرد عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك ، فهل يعتبر حجة أم لا ؟
والذي عليه الجمهور أنه حجة .
(ينظر : حجية قول الصحابي عند السلف . د ترحيب الدوسري . دار المنهاج )
4 – الاستحسان : اختلف في تعريفه فقيل : العدول عن قياس إلى قياس أقوى
وقيل : العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى
وقال الشيخ يعقوب باحسين في كتابه الاستحسان حقيقته أنواعه حجيته ص 41 : العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي التخفيف ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم “
وله أنواع ذكرها أهل الأصول والفقه .
ومن الأمثلة عقد الاستصناع وهو طلب العمل من صانع في شيء خاص على وجه مخصوص
كالخياط والبناء وما يسمى بعقد المقاولة والنجار .
فأجيز استحسانا مع مخالفته للقياس لأنه بيع معدوم، لحاجة الناس إليه وتعامل الناس به دون نكير .
5 – المصالح المرسلة : ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص
:تنقسم المصالح إلى ثلاثة أقسام
الأول : مصلحة معتبرة وهي ما شهد الشرع باعتباره ، فهذه محل اتفاق على العمل بها
الثاني: مصلحة ملغاة ما شهد الشرع ببطلانه وقد اتفق الفقهاء على ردها كالمصلحة الموجودة في الخمر أو في الربا
الثالث : مصلحة مرسلة لم يأتي دليل خاص على اعتبارها ولا على إلغائها
ومن أمثلة المصالح المرسلة : جمع القرآن الكريم زمن أبي بكر رضي الله عنه، ثم زمن عثمان رضي الله عنه .
اتخاذ الكتاب والدوواين والسجون، وأحكام الأنظمة والقوانين كقوانين السير والمرور ونحو ذلك .
6 – سد الذرائع
الذرائع : جمع ذريعة، والذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى الشيء، سواء أكان مصلحة أم مفسدة.
وسد الذرائع : منع الوسائل المفضية إلى المفاسد
“مثال ذلك قول الله تعالى : “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
وجه الاستدلال : أن الله منع المسلمين من سب آلهة الكفار مع أنها تستحق السب والشتم، ولكن منع من سبها حتى لا يسبوا الله، وهذا ظاهر في سد الذريعة المؤدية إلى المفسدة.
» ومثالها : منع الشارع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « هدايا العمال غلول