قال المقري في كتابه نفح الطيب عن الخليفة الأموي القوي عبدالرحمن الناصر الأندلسي ، والمتوفى سنة 350هـ : ” وحكي أنه وجد بخط الناصر رحمه الله أيام السرور التي صفت له دون تكدير : يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ، ويوم كذا من كذا ، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما ” ثم قال المقري: ” فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها ، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدينا والصعود ، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيّام ، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوماً ، فسبحان ذي العزّة القائمة ، والمملكة الدائمة ، لا إله إلا هو“ .
فهذا هو حال الدنيا ، لا تصفو لأحد ، كما أخبرنا ربنا عزوجل : ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) ، ومن قدر الله على الإنسان في هذه الدنيا تسلط المنغصات والهموم والأحزان عليه ، فمهما كان الإنسان منعما في هذه الدنيا سيجد فيها شيئا من الهم والغم ، فليست جميع أيام الدنيا أيام صفاء وسرور ، وكم خلف ابتسامات بعض الأشخاص من آلام وأحزان لا يعلم بها إلا الله جل جلاله ، ولكنهم تسلحوا بسلاح الصبر فلم يُظهروا الجزع واليأس والقنوط ، وإنما أظهروا الصبر والاحتساب ، والرضى بالقضاء والقدر ، فتمكنوا من تجاوز هذه الأحزان والهموم ، وليست الأحزان كما يتصور البعض ضربا من الألم الناشئ بسبب التنعم الزائد ، فكم من مبتلى بعظيم الابتلاء لا تسمع له أي كلمة في التوجع والتألم بل لعلك تراه مبتسما ، يظهر حمد الله والثناء عليه في كل موقف ، فيظنه من يراه بأنه يعيش حياة باذخة في السعادة والهناء والصفاء! وهذا الصبر لا يتيسر لأي أحد وإنما يتيسر على من امتلأ قلبه بحب الله والسعادة به والأنس بمناجاته ، وكان حقا وصدقا من أهل الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره ، فهذه الابتلاءات تجعل الإنسان في بعد عن التعلق بالدنيا ، فلم يتقاطع الأرحام والأهل والأصحاب ؟ من أجل دينا فانية زائلة ؟!
ومن عرف حال الدنيا لم يجعلها في قلبه وإنما يجعلها في يده ، فتجده من أكثر الناس مسامحة وعفوا عن الآخرين ، وهذه هي حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، فكم مر عليه من بلاء وبلاء ولكنه كان كاسمه : ( محمد وأحمد ) فهو أكثر الخلق حمدا لله تعالى في جميع الأحوال ، فكن كذلك تكن من أهل السعادة والتوفيق ، ومن نظر في حال أهل البلاء علم صدق المثل الجميل : ( من شاف بلوى الناس هانت بلاويه ) ، فبعضهم يعاني من مشاكل تافهة للغاية فتسود الدنيا في وجهه ، ولا تطيب له الحياة ، فلو فاتته ترقية في عمله مثلا فقد يصاب بيأس وينهك نفسه بالتفكير ، ولو تأمل في الأمر وقارن حاله بحال فقير يرى والده المريض يئن من شدة المرض وهو لا يملك لوالده الحبيب إلى قلبه العلاج بسبب فقره! فهنا يهون البلاء علينا ، ولو فتشنا في بعض أحزاننا لوجدنا أن سببها أمر يسير للغاية مقارنة بما يعانيه بعض الناس ومع هذا تجد منهم صبرا وثناء على الله ، فاللهم فرج هم المهمومين واكشف الكرب عنهم.