اعلموا رحمكم الله ، أن الله – عز وجل – فضَّل بعضَ الأوقاتِ على بعضٍ، وجعلها مُتَّجراً رابحاً لعبادهِ المؤمنين. فهذا شهرُ رمضان يقبل علينا، شهر شرّفهُ الله وفضَّله، أنزلَ فيه القرآنَ قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ” ، وفرضَ صيامَهُ على الأنام فقال سبحانه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وجعلَه موسماً عظيماً من مواسم العفو والغفران، قال صلى الله عليه وسلم ” إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ” من صامهُ إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدم من ذنبه ، قال الخطابي رحمه الله :قوله ” إيمانا واحتسابا ” أي نية وعزيمة وهو أن يصومَهَ على التصديقِ والرغبةِ في ثوابهِ طيبةً بهِ نفسهُ غيرَ كارهٍ له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ، لكن يغتنم طول أيامه لعظم ثوابه
فضَّلهُ سبحانه على كثيرٍ من القرباتِ والطاعاتِ، ورفعَ منزلتهُ وميّزهُ على أنواعِ العباداتِ بقوله في الحديثِ القدسي ،” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ
قال ابن رجب رحمه الله : ” الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد ، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير عدد ، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)ا.هـ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بشهر الصبر ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر
فهذه النعم تستوجبُ الشكرَ للباري، وتقتضي اغتنام هذا الشهر، بما يكونُ سبباً للفوزِ بدارِ القرارِ، والنجاةِ من النار، فمن حرم فضل هذا الشهر فهو المحروم ، وأي خسارةٍ أعظمُ من أن يدخلَ المرءُ فيمن دعا عليهم جبريلُ عليهِ السلام ، وأمنَّ على دعائهِ نبيُّ الأنامِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال جبريل : ((من أدركَ شهرَ رمضانَ فلم يغفر له، فدخلَ النارَ فأبعدهُ الله قل: آمين، فقلت: آمين))؟! من حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟
يقول الله جل وعلا :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالصيامَ من أكبرِ أسبابِ التقوى لأن فيهِ امتثالا لأمرِ اللهِ واجتنابا لنهيه ، فالصائمَ يتركُ ما أحل الله له من الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوها التي تميلُ إليها نفسهُ متقرباً بذلك إلى الله راجيا بتركها ثوابهُ ، فهذا من التقوى ، كما أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه
والصائم ليله ونهاره في عبادة ، فقد ترك شهواته لله بالنهار تقربا إليه وطاعة له ، وبادر إليها في الليل تقربا إليه وطاعه فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع في الحالين
قال أهل العلم : المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه : جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام ، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفِّيَ أجره بغير حساب
معاشر المسلمين، ليكن صومكم جُنّة تتدرّعون به من جميع المعاصي والآثام، في جميع الأوقات والأزمان، يقول صلى اللهعليه وسلم: ((الصيام جُنّة (أي وقاية)، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم)) متفق عليه
فمن مقاصد الصوم ضبطُ النفس وتهذيبُها، وصومُ الجوارح وحفظُها، قال صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش
قال ابن رجب : ” وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات – من الطعام والشراب والجماع – لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل ” ، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث “
فاحفظوا جوارحكم عن المحرمات ومشاهدة المسلسلات والأفلام وسماع الأغاني حتى تحفظوا صومكم ، وتفوزوا برضا ربكم . وإن من أعظم الخسارة أن يأتي العبد يوم القيامة بعبادة لا أجر لها، وهو أحوج ما يحتاج إلى حسنة تدخله الجنة وتنجيه من النار، فأي قبول يرتجيه الصائم وقد أرهق نفسه بترك الطعام والشراب والشهوات في النهار ثم أفطر عليها وعلى ما حرم الله، فمثله كمثل عامل عمل طول النهار ثم أخذ أجرته في آخر النهار فرماها في البحر
وانشغلوا يا عباد الله بتلاوة القرآن الكريم قال صلى الله عليه وسلم ” الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان
الخطبة الثانية : عبادَ الله، إذا نزَلَت بالمسلم مواسمُ الخيرات تهيَّأ لها واستعدِّ ونشطَ لكسبها وجدَّ، والسَّعيد من وفِّق لاغتنامها وسلَك الطريقَ الموصِل للقَبول، والمحرومُ من حرِمَ خيرَها، وكَم من صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش، وكم من قائمٍ حظُّه من قيامه التَّعب والسّهَر، نعوذ بالله من الحِرمان؛ لِذا شمَّر الخائِفون، وفاز سراةُ اللّيل، ورَبِح المدلِجون، وعند الترمذيّ بسند صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من خاف أدلَج، ومن أدلَجَ بلغ المنزِل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة
أيّها المسلمون، من أرادَ الصلاةَ تطهَّر لها، وكذا من أراد الصّيام والقيامَ وقَبول الدعاء فعَليه أن يتطهَّر من أدرانِ الذنوب وأن يغسِلَ قلبَه من أوحالِ المعاصي، والتي لها آثارٌ سيّئة على العبادَة خاصَّة، فالتّوبةُ والاستِغفار من أولى ما تُستَقبَل به مواسمُ الخير، فكيف نلقَى الله تعالى وندعوه ونَرجو خيرَه وبِرَّه وإِحسانَه ونحن مثقَلون بالأوزارِ، فالمعَاصي تحرِم العبدَ من إجابةِ الدعاءِ كما في صحيح مسلم أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم :ذكَر الرّجلَ يطيل السّفَر أَشعثَ أغبر يمدُّ يدَيه إلى السّماء: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطعمُه حرام، ومَشرَبه حَرام، ومَلبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: ((فأنَّى يستَجَاب لذلك؟
فاتَّقوا الله تعالى أيَّها المسلمون، واستقبِلوا شَهرَكم بالتّوبَةِ والاستغفار وهجرِ الذنوب وردِّ المظالِمِ وإخلاصِ العِبادَة لله وحدَه واتِّباع السّنّة والعَزيمةِ المقرونةِ بالهمَّةِ الصادِقة للظَفَر بخير هذا الشّهر الكريم وإظهارِ الفرَح والاستبشار به والحذَرِ من التذمُّر والتسخُّط
“كما يستعد المسلم بتعلم أحكام الصيام والقيام حتى يعبد الله على بصيرة، فيكون عمله مقبولا، وعنه مرضيا، قال تعالى ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
أيها المسلم إذا دخل رمضان ، فبيت نية الصيام من الليل قبل طلوع الفجر ، و يكفي عزم القلب على الصوم ، وما قيامك للسحور إلا قرينة على نيتك للصوم
ولا تدع السحور فإنه بركة فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ ” وصلاة الله عليهم بأن يذكرهم الله في الملأ الأعلى وصلاة الملائكة أي دعاؤهم لهم عند الله بالمغفرة والرحمة
ويستحب فيه التأخير إلى قبيل الفجر فعَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً ” رواه البخاري
ثم أمسك عن الطعام والشراب والجماع وعن كل ما يفسد الصوم من الذنوب والمعاصي إلى غياب الشمس ، فإذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم ، وعجل بالإفطار ولا تتأخر فيه ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء
ولا تدع صلاة التراويح فإنها من سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وفيها الأجر العظيم قال صلى الله عليه وسلم ” مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ” وقال صلى الله عليه وسلم مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ
واعلموا من الذنوب العظام الفطر في نهار رمضان بدون عذر فإنه من كبائر الذنوب والآثام وصاحبه متوعد بالعذاب الأليم فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد فقلت إني لا أطيقه فقالا إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة قلت ما هذه الأصوات قالوا هذا عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم (جانب الفم ) تسيل أشداقهم دما قال قلت من هؤلاء قالا الذين يفطرون قبل تحلة صومهم