بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد
فمن المعلوم عند العقلاء أن الحكم على أي موضوع يعتمد على ثلاثة أمور، لا يصح الحكم بدونها مجتمعة
الأول : تصور الموضوع تصورا صحيحا، فلا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما كان فيه، وقديما قيل : الحكم على الشيء فرع عن تصوره
الثاني : الدليل الصحيح الذي يناسب الموضوع.
الثالث: الاستدلال الصحيح بهذا الدليل، وتنزيله على الموضوع المراد الحكم عليه من خلاله
فمن فاته شيء من هذه الأمور جانبه الصواب في حكمه، ووقع في الخطأ من حيث لا يدري وهو يظن أنه يحسن صنعا، فكيف لو فاتته الأمور الثلاثة مجتمعة
ومن الأمثلة الواقعية التي جاء الحكم فيها مجانبا للحق والصواب، مقال بعنوان : قبوريون ولكن … للكاتب عبد الله الشويخ ، نشر في صحيفة الإمارات اليوم بتاريخ 1/10/2017
تعرض فيه الكاتب لمسألة رآها مسلية، وهي قضية القبور والاهتمام بها، والتي أدت إلى حروب فكرية بين صنفين متطرفين وهما : متطرفي اليمين وهم حسب ترتيب كلامه من يحاول تطبيق السنة المطهرة، ومتطرفي اليسار وهم ضد التيار الأول
وهذا التقسيم – تيار اليمين وتيار اليسار – ليس معروفا لدى المسلمين، خصوصا وأن المقال يبحث الخلاف في مسألة شرعية، وإنما عرف لدى الغرب والنظام الديمقراطي الذي يقسم الأحزاب إلى حزب اليمين وحزب اليسار.
ثم من الخطأ البين أن يصف الكاتب من يسعى لتطبيق السنة في القبور بالمتطرف، حيث قال : ” لطالما شكلت القبور والأضرحة حيزا مسليا لمشاهدة الحروب الفكرية بين متطرفي اليمين ومتطرفي اليسار” ثم فسر متطرفي اليمين بقوله ” فطائفة تريد أن تكون القبور على السنة المطهرة” وبين التطرف في تصرفهم بقوله : ” تندفع إلى تطبيق تلك الرغبة بأسلوب لا يزعج الأموات فقط، بل ويزعج الأحياء ..” ولنا مع هذه العبارات والأوصاف وقفات
الأولى: الأولى بالكاتب أن يصور الموضوع تصويرا صحيحا قبل أن يخوض في الحكم والتصنيف، فكلامه على مسألة ذكرها علماء الإسلام في كتب السنة والعقيدة، وإذا كانت بهذه الأهمية فلا مجال لوصف الخلاف حولها بالمسلي
الوقفة الثانية : الخلاف الفقهي المعتبر القائم على الاجتهاد محترم بين أهل العلم وتتسع صدورهم للمخالف، والخلاف الشاذ أو الضعيف القائم على غير دليل صحيح يرد . والقول بالمنع في هذه المسألة مبني على أدلة شرعية، ومن ذلك ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه»، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم ما ارتفع من البناء عليه، فعن أبى الهياج الأسدي قال: قال لي على بن أبى طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته. رواه مسلم
وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فطبقوا ذلك على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، مع عظم مكانته في نفوسهم، فعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له لحد، ونصب اللبن نصبا، ورفع قبره من الأرض نحوا من شبر
وروى مسلم أن ثمامة بن شفى قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس – جزيرة في البحر المتوسط حاليا- فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوى ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها
وهو كذلك ما حكم به الأئمة الأعلام من المجتهدين والمفتين، قال محمد بن رشد القرطبي المالكي: كره مالك البناء على القبر، وأن يجعل عليه البلاطة المكتوبة؛ لأن ذلك من البدع التي أحدثها أهل الطول إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، فذلك مما لا اختلاف في كراهته ” ينظر البيان والتحصيل (2/2019-220
وقال النووي الشافعي رحمه الله : ” قال الشافعي والأصحاب : يكره أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك، وأن يبنى عليه، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء ..” المجموع 5/266
مع العلم أن الكراهة عند العلماء المتقدمين تحمل على كراهة التحريم والمنع
فهل هؤلاء الأئمة يدخلون في قسم متطرفي اليمين ؟
الوقفة الثالثة : قول الكاتب : ” المبالغة في قياس إيمان المرء وعقيدته وكفره وصلاحه بمجرد الخلاف معه على نظرته لهذه القضية ” هذه من المبالغات التي لا سند لها، وإلا فإن بناء الأضرحة على القبور مخالف للهدي النبوي ولما كان عليه الصحابة رضوان لله عليهم، ولا يصل الأمر إلى تكفير فاعله
وأما الكفر الذي تشير إليه فهو ما ذكره أهل العلم من صرف العباد العبادة لغير الله تعالى، فيتوجه بسؤاله ودعائه ورغبته ورجائه للولي أو الصالح في القبر، وهذا لا شك أنه كفر، كما دلت عليه النصوص
قال تعالى : ” وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ،وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ” الأحقاف 5-6
و عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه برىء وهو للذي أشرك
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قبل وفاته واشتد نكيره على من فعله
فروى البخاري في صحيحه عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله – صلى الله عليه وسلم – طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . يحذر ما صنعوا
مع التنبيه على أن الفعل قد يطلق عليه أنه كفر، ولا يطلق اسم الكفر على من فعله، إلا بعد قيام الحجة، وبيان الدليل، وإزالة المانع، ولا يكون ذلك إلا للعالم ولولي الأمر والقضاة، وليس لأفراد الناس .
ثم نرى الكاتب قد انتقل نقلة نوعية كبيرة في حديثه عن الأضرحة والخلاف المسلي فيها بين تيار اليمين وتيار اليسار، فتحدث عن أهمية الأضرحة في حفظ التاريخ والأحداث المتعلقة بالأسر، وقد أصيب بالإحباط لما نظر إلى المقبرة وإلى القبور فلم ير أي معلومة تاريخية مسجلة على القبور تدل على أصحابها وعلى الأحداث التاريخية والأسباب التي أدت إلى وفاتهم
وهذا الأمر يدل دلالة واضحة على عدم تصور الكاتب لصورة المسألة التي ذكر الخلاف المسلي فيها
وإلا فمتى كانت القبور وما بني عليها سجلات تحفظ لنا التاريخ ؟
زيارة القبور – إخواني القراء – شرعت لأخذ العبرة والعظة وتذكر الآخرة، وليس لدراسة تاريخ من مضى ومعرفة أسباب فناء الأسر وزوالهم، قال صلى الله عليه وسلم : ” إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة
وأخيرا أقول : أخي الكاتب وفقني الله وإياك والقراء للخير ، مسائل الخلاف الشرعي لا تطرح بهذه الصورة التي ذكرتها في مقالك، خصوصا إذا تعلق الأمر بمسائل تكلم فيها جهابذة العلماء، والخلاف فيها له وجهه، ولا نحكم على المسائل من تصرفات الأفراد وممارساتهم، بل نقرر الحق الذي نعتقده، وننتقد الممارسات الخاطئة ونسعى لتصحيحها، مع سعة الصدر في المسائل الخلافية المعتبرة التي تتسع فيها دائرة النظر وتختلف، لاحتمالية الدليل
وحفظ التاريخ والتراث متعين ومهم، ولكن ليس على حساب الدين وأسسه، فكما ذكرت أنت فقلت : ” هناك 1000 طريقة وطريقة لحفظ المعلومات دون الخوض في قضايا خلافية
” فلو التزمت بما سطرته يمينك لأحسنت الصنع
والحمد لله رب العالمين