بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد
فمن سماحة ديننا أن أعطى لكل ذي حق حقه بوسطية واعتدال لن يوجد مثله عند عقلاء العالم، وذلك أن أحكام هذا الدين من لدن حكيم بالأمور ومواضعها، فيضع كل حكم في محله الذي يناسبه، خبير بأحوال الناس وما يصلح لهم وما يصلحهم
ولذلك راعت أحكام شريعتنا الإنسان، واهتمت بجميع جوانبه الروحية والمادية، ليحيى حياة طيبة، وليتفرغ لتحقيق الغاية التي لأجلها خلق وأوجد وهي عبادة الله وطاعته، فجاءت قواعد الدين بما يحقق للنفس الإنسانية سعادتها واستقرارها، قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما:إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال
صَدَقَ سَلْمَانُ. رواه الترمذي . وقال حنظلة -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم :” نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ” رواه مسلم
فالترويح عن النفس من متطلباتها حتى لا تقع في الملل وتترك العمل، ولذلك أباحت الشريعة للناس الترويح عن أنفسهم بالمباحات لتعود أنشط للطاعات
وفي هذه الأيام – أيام الشتاء- يكثر خروج الناس للتنزه في البرية، خصوصا أيام الإجازات وبعد سقوط الأمطار، وهذا أمر مباح ولا شيء فيه، ولكن توجد بعض التوجيهات التي لا بد من مراعاتها لتكون هذه المباحات معينة لنا على الطاعات وسببا لاكتساب الحسنات
الأول : استحضار نية الترفيه عن النفس لأجل تشجيعها على الإقبال على الطاعات وطلب العلم والقيام بخدمة العباد والبلاد
فالنفس من عادتها الملل، وإذا ترفهت وانتعشت ودخل السرور إليها زاد نشاطها وإقبالها على مهمات الأمور، وبعض أصحاب الهمم العالية يستغل هذه الرحلات وهذا الترفيه للازدياد في العبادات وطلب العلم
ومن العبادات التي يمكن للعبد أداؤها في البر عبادة التفكر في خلق الله، كما قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: ” الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” [آل عمران:191
وبعض أصحاب الهمم العالية يستغل هذه الرحلة في مدارسة بعض مسائل العلم مع إخوانه، على أن لا تطغى هذه المدارسة على الهدف الحقيقي من الرحلة
ويمكن للمسؤول في هذه الرحلة والآباء في الرحلات العائلية إعداد مسابقات دينية وثقافية، إذ بها تحصل المعرفة والتعلم، ويتحقق ترفيه النفس واستجمامها
الثاني : حسن التنظيم والترتيب، وإذا كانت المسافة مسافة سفر أمّروا عليهم أحدهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ ” رواه أبوداود، على أن يكون هذا الأمير من أهل الخبرة في تسيير الأمور وتنظيمها، وعلى إخوانه معاونته والالتزام بما تم الاتفاق عليه بما يتعلق بأمر الرحلة
ومن الأخطاء التي تقع من بعضهم التأخر عن موعد الخروج المتفق عليه، أو الاعتذار في آخر لحظة لغير سبب جديّ، أو نسيان وإهمال ما تم تكليفه به، وهذا يؤدي إلى عرقلة الخروج وتأخيره وإيقاع الحرج ببقية إخوانه، ومن صفات المؤمن الوفاء بالوعد والعهد وعدم إخلافه
وإن كانت الرحلة عائلية فالأب هو المسؤول عن الرحلة وتنظيمها وعلى أفراد الأسرة معاونته والالتزام بالمهام التي توكل إليهم، وعلى الأب أن يستغل مثل هذه الرحلات في غرس قيمة تحمل المسؤولية في أبنائه، فيوزع عليهم الأدوار حسب أعمارهم ومهاراتهم
كما تستطيع الأم في مثل هذه الرحلات تعليم البنات ما يتعلق بإعداد الطعام وتجهيزه ونحو ذلك
الثالث : الاهتمام بأمر الصلاة والاستعداد لها والتحقق من دخول وقتها، والأذان لها مع استحضار عظيم الأجر فيه ، فأبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول لرجل ناصحا: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيءٌ ، إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم رواه البخاري، مع المحافظة على صلاة الجماعة في البر، وفي ذلك أجر عظيم كذلك كما ذكره بعض أهل العلم مستدلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِذَا صَلَّاهَا بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَأَتَمَّ وُضُوءَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا؛ بَلَغَتْ صَلَاتُهُ خَمْسِينَ دَرَجَةً” صحيح الجامع
ويستطيع الأب أن يوكل أمر الصلاة والأذان إلى بعض أبنائه الذكور ليغرس فيهم قيمة حب الصلاة والاهتمام بها، ويعلمهم الأذان والإقامة، وطريقة الاقتصاد في الوضوء وعدم الاسراف في استعمال الماء
كما يمكن تطبيق بعض سنن الصلاة في البر والتي لا يستطاع فعلها في المسجد كالصلاة بالنعال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ” صحيح الجامع
كما عليهم أن يتعلموا أحكام القصر والجمع إن كانوا على سفر، وبعضهم يجمع بين الصلاتين في البر من غير سفر أو عذر يبيح الجمع، وهذا لا يصح
كذلك تعلم أحكام الطهارة وطريقة الاستجمار والتيمم عند فقد الماء
الرابع: حسن اختيار المكان، مع إعطاء الجيران الذين سبقوهم بالجلوس حقهم، فلا يزعجوهم أو يفعلوا من الأمور ما يضايقهم، وإن كانوا رجالا فلا يجلسون بجانب من خرج مع عائلته، بل يختارون مكانا بعيدا عنهم حتى لا يتأذى النساء بقرب الرجال
ومن المخالفات المعاصرة إيذاء الجالسين بأصوات الدراجات العالية، والتسابق بها في أمكان جلوس الناس، وربما وقعت حوادث دهس وتصادم بسبب ذلك، فمن أراد استعمال هذه الدراجات فعليه اختيار المكان المناسب المعد من قبل البلديات، أو الأماكن الخالية من العائلات والجالسين
الخامس : حسن اختيار الصحبة في الرحلات، من ذوي الصلاح والتقوى والاستقامة والأخلاق الحسنة، لما لهم من أثر بالغ في تحقيق مقصد الرحلة والخروج إليها
وعدم الخروج مع من لا يُعرف حاله، أو الخروج مع أصحاب الأفكار المنحرفة من أهل الجماعات والتحزبات، ومن يطلبون السرية في أعمالهم، فإنهم على شر وسوء، ومن يتكلم على ولاة الأمور ويحرض عليهم، ويروج لدعاة الفتنة، فإن صحبتهم وبال على الخارج معهم
والخروج إلى المزارع والجبال للتنزه كان من طريقة بعض الخوارج في عصرنا، ليتقربوا للشباب بواسطتها، ويجمعوا أكبر عدد منهم بالأنشطة المصاحبة والمسابقات والألعاب، ثم يدسون السم في العسل، فيحرضونهم على ولاة أمرهم وعلى أوطانهم
ولا يخرج كذلك مع أصحاب الشهوات من المضيعين لحقوق الله وحدوده، لما قد يرتكبوه من معاصي، تضر الخارج معهم في دينه ودنياه
السادس : المحافظة على نظافة المكان بعد تركه، وتجميع النفايات والمخلفات في أمكان مخصصة لأجل وضعها في مكب النفايات، وذلك مبدأ شرعي راق، وشعبة من شعب الإيمان، تدل على سماحة الإسلام وعنايته بالبيئة وصحة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ” رواه مسلم
وترك هذه المخلفات فيه إلحاق ضرر بالإنسان والحيوان، بسبب ما تحدثه من روائح كريهة، تجلب الذباب والهوام، فيتأذى من يريد الجلوس في هذا المكان، وربما أكل بعض الحيوانات المخلفات البلاستيكية فماتت، كما حدثني بذلك بعض أصحاب الإبل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لا ضرر ولا ضرار ” رواه ابن ماجه
وفي جمع النفايات ورميها في المكان المناسب طاعة لولي الأمر الذي أمر بذلك وحث عليه
ومن المحافظة على المكان عدم قضاء الحاجة في الأماكن التي يمكن للناس أن يرتادوها ويجلسوا فيها، حتى لا يُعرّضَ الناس للأذى، ولا يُعرّض نفسه لدعاء الناس عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ . قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ: الَّذِى يَتَخَلَّى فِى طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ . رواه مسلم
السابع : المحافظة على الأذكار الشرعية في البر، خصوصاً أذكار الصباح والمساء، وذكر النزول كما قال صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرُّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ” رواه مسلم
وذلك أن هذه الأمكنة قد يسكنها بعض الجن والشياطين، وتوجد بها بعض الهوام الضارة كالأفاعي والعقارب، خصوصاً فترة دخول الليل فإنها تظهر وتنتشر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ – أَوْ أَمْسَيْتُمْ – فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ ».” متفق عليه وفي رواية عند البخاري : ” وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً “
الثامن : لا تنس عائلتك من الخروج في مثل هذه الرحلات، فإن بعض الرجال يكثرون من الذهاب مع أصحابهم إلى البر للنزهة ويترك زوجته وأولاده دون أن يخرج بهم ومعهم، فحسن العشرة مع الأهل والذرية يقتضي الترفيه عنهم بما يدخل السرور على أنفسهم
التاسع: التخلق بمحاسن الأخلاق في التعامل مع الإخوة والأصحاب في الرحلات، وذلك من كمال الإيمان، ومما يزيد العبد رفعة عند الله وعند الناس، فلا يتكبر على إخوانه بل يتواضع، ويسعى لخدمة إخوانه ومساعدتهم، فإن بعضهم يجلس في مكانه آمراً ناهيا ً دون أن يقوم بأي عمل، والصحيح أن يشارك أصحابه عملهم
وإذا وَجد المرء منكراً في أثناء الرحلة أُنكره بالمعروف، فإن لم يَستطع إنكاره رَفع الأمر للمسؤول دون أن يثير الخلافات التي تؤدي للتفرقة والتحزب
أخيرا لا ينس العبد الهدف الأسمى من وجوده في الحياة وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، فعليه أن يستعمل كل ما خلقه الله له في هذه الدنيا لتحقيق هذا الهدف
وفقا الله جميعا لما يحبه ويرضاه