بسم الله الرحمن الرحيم
:الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد
فيكثر – في هذه الأيام- تجرؤ بعض من لا علم عنده ولا فقه صحيح على تقرير بعض الأحكام الشرعية، مستنداً في ذلك على بعض النصوص والأدلة، دون النظر في صحتها وطريقة الاستدلال الصحيح بها، ولا في فهم العلماء والأئمة لها، فيقع في الانحراف، مع إضلال الناس في عقائدهم وعباداتهم
و هذه الجرأة على الدين والخوض فيه دون أهلية علمية مع الجهل بأصول الاستنباط الصحيح سبب رئيس من أسباب ظهور الفكر المتشدد وانتشاره وظهور التنظيمات الإرهابية
ومن الأحكام المشتبهات التي نُقلت في بعض وسائل التواصل الاجتماعي مشروعية النقل عن أهل الباطل والفكر المنحرف، سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، نقولات تصاغ كتغريدات في تويتر، تنشر بين الناس، بحجة أن كلامهم المنقول يوافق الحق، مع ما يحملونه من أفكار تضر بالدين والمجتمع، كالأفكار الثورية والإرهابية والتكفيرية وغيرها، وهذا يمثل ثغرة خطيرة يستغلها أهل الفتن للترويج لرموزهم في المجتمعات، بدعوى أخذ الحق منهم، سواء كانوا من إخوان أو سروريين أو تكفيريين أو غيرهم، كما صر ح قائلهم قريبا أنه يجيز النقل عن سيد قطب ما يراه حقاً، وهو الذي ملأ الفضائيات عويلاً وصراخاً في نقد الإخوان وتعرية شخصياتهم وقادتهم
واستدل من قرر هذا الحكم بما رواه البخاري من قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي كان يحاول السرقة من زكاة رمضان، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِي آتٍ ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ – فَقَالَ – أي الشيطان-: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . فَقَالَ النَّبِيّ – صلى الله عليه وسلم – «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، ذَاكَ شَيْطَانٌ
وجه الدلالة من القصة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أقرَّ أبا هريرة –رضي الله عنه- على الحكم الذي نقله عن الشيطان، لموافقة هذا الحكم للحق، فكذلك يجوز النقل عن أهل الباطل ما وافق الحق
وفي الحقيقة هذا استدلال باطل، وفي غير محله، بل يترتب عليه من الباطل الشيء الكثير
:وقبل بيان فساد هذا الاستدلال يقال
قبول الحق من الغير ولو كان من المخالفين لك فكراً وديانة ليس بمعيب ، لأن المسلم مطلوب منه اتباع الحق ورد الباطل، قال ابن حجر –رحمه الله – في فتح الباري : ” أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فيُنتفع بها
:ولكن
من الذي يحدد كون هذا الكلام المنقول عن المخالف حق يجب الأخذ به ؟
أليس من أسباب وقوع كثير من الشباب في شباك الإرهابيين أنهم ظنوا أن كلامهم حق ففجَّروا ودمَّروا؟
هل للمسلم أن ينشر هذا الحق باسم قائله المنحرف عقائديا وفكريا ؟
أليس في نشر نقولات لرموز مشبوهين كسيد قطب وابن لادن والظواهري وحسن البنا وجمال الدين الأفغاني وبعض الفلاسقة كالحلاج وابن الرومي وغيرهم ترويجاً لهم وربطاً للشباب بهم وتمريراً لأفكارهم بصور ملتوية وتحت شعارات براقة؟
الجواب سيجده القارئ أثناء رد هذا الاستدلال
:أقول مستعيناً بالله تعالى طالباً منه التوفيق
أولا : الشريعة الإسلامية جاءت بالتحذير من أهل الانحراف الفكري والعقدي، وبالتحذير من كتاباتهم وأقوالهم، بل أمرت بالتحذير من ذواتهم إذا اقتضى الأمر، وذلك لأجل حماية المجتمع من أفكارهم التي تضر بالدين وبالناس غاية الضرر
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ” هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 7 ]
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ
فلا يستقيم التحذير من أهل الانحراف الفكري والعقدي والسلوكي من الفلاسفة التنويريين والإرهابيين المتشددين وغيرهم مع نشر ما وافق الحق على ألسنتهم، ودلالة الناس – خصوصا العامة- عليهم وعلى أقوالهم
ومما يبين هذا الأمر ويجليه هذه القصة التي وقعت مع عمر – رضي الله عنه- كما رواها الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ –رضي الله عنهما- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه – أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَغَضِبَ وَقَالَ: ” أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – حذر عمر والأمة من النظر في مقالات وكتب أهل الانحراف العقائدي والفكري، ودلّهم على كفاية ما جاء به الإسلام من حق وأحكام، عن النظر في غيره ولو كان حقاً
ثانيا : الحق المنقول عن أهل الانحراف العقدي والفكري – إن كان حقا – موجود في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الصحابة وأئمة المسلمين وعلمائهم من المعروفين بسلامة المعتقد والمنهج، ففيهم الكفاية لمن أراد السلامة، والعدول عنهم إلى من هم دونهم من المنحرفين دلالة على زيغ وسوء الفكر وانحرافه
ثالثا : الاستدلال بهذا الحديث على هذا الباطل الذي ذكره صاحب الشبهة ومذيعها هو دأب أهل البدع وطريقتهم، فاستدل به الإخوان والسرورية على تقرير مذهب الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات عند نقد الأفكار وأصحابها، لأجل تلميع مفكريهم مع ما وقع منهم من انحراف وزيغ في الاعتقاد والفكر، وقد ردّ عليهم العلماء وبينوا بطلان استدلالاتهم
فالمستدل بهذه الشبهة سائر على طريقة أهل البدع منتهج سبيلهم.
:رابعا :رد على صاحب هذه الشبهة من خلال نص الحديث وفقهه
أ ) الصحابي الجليل – رضي الله عنه- قبل أن ينشر ما سمعه من هذا المجهول سأل عنه النّبي – صلى الله عليه وسلم -، ولم يحمله على محمل الصدق، بل قال للنبي – صلى الله عليه وسلم- : يا رسول الله : زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله”
وكلمة ( زعم ) تقال في ما يحتمل الشك، فلما أقره عليه حدّث به
بخلاف من ينقل عن أصحاب الفكر المنحرف، دون تأكد من صحة المنقول بالرجوع إلى أهل العلم الثقات، فيقع في خطر عظيم، فقد ينقل الكلام وينشره ويظن أنه حق، ويكون فيه البلاء، وقد يكون الكلام المنقول مشتملا على حق وباطل، فيتوهم أنه كله حق، وتنطلي عليه ألاعيب أهل الفتن الذين يدسون السم في العسل، ويزخرفون الكلام للتلبيس على الناس، ومن أساليب بعضهم أنهم يفتتحون النقولات بمصطلحات مثل الحرية والكرامة والعدالة والحقوق وغيرها ويختمونها بالطعن في أسس الدين وقواعده ، والتحريض ضد الأوطان والحكام والدعوة للخروج والثورات.
ب ) النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أخبره أبو هريرة – رضي الله عنه- بما قاله الشيطان قال له: ” صَدَقَكَ وَهوَ كَذُوبٌ ، ذَاكَ شَيْطَانٌ ” وهذا إقرار من النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحق الذي ذكره الشيطان، وفيه تحذير منه بأن وصفه بأنه كذوب، وهي صيغة مبالغة، ثم أتبع ذلك ببيان حال المخاطب فقال : ذاك شيطان
فهل من ينقل عن أصحاب الفكر المنحرف يفعلون كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – فيقول قاله فلان وهو من الفلاسفة المنحرفين، أو من الثوريين فيكشف حاله للقراء؟
الجواب : أبدا
بل للأسف ينقلون كلام من عرف بالانحراف العقدي والفكري، دون بيان حالهم، أو تحذير القراء منهم ومن مسالكهم وفكرهم، فشتان بين الأمرين
ثالثا : ورد التحذير الشديد من السلف رحمهم الله عن نقل كلام أهل الانحراف العقدي والفكري، أو الاستماع له، صيانة للدين من التحريف، وحماية لعقيدة المسلمين من أن يدخلها ما ليس منها، ووقاية للمجتمعات والأوطان من شر أهل الفتن والتحريض والزيغ
ومن ذلك ما ورد عن محمد بن سيرين –رحمه الله- : أنه دخل عليه رجلان من أصحاب الأهواء فقالا : يا أبا بكر نحدثك بحديث ؟ قال : لا قال : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟ قال : لا . لتقومنّ عني أو لأقومنّ ؟ قال : فقام الرجلان . فقال بعض القوم : يا أبا بكر ما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله ؟
فقال محمد بن سيرين : خشيت أن يقرآ عليّ آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي ، ثم قال : لو أعلم أني أكون مثلي الساعة لتركتهما. أخرجه الدارمي والآجري في الشريعة .
وأخيرا أقول : ينبغي لمن تصدر في جانب الدعوة إلى الله، ويسر الله له مخاطبة الناس أن يكون أميناً فيما ينقل ويحدث به، فإنهما مسؤولية عظيمة سيسأل عنها أمام الله.
كما على القراء والمتابعين في تويتر وغيره الحذر من أهل الفتن، الذين يظهرون للناس الضلال في صورة حق، والناس على فطرهم يحبون من يرشدهم للخير ويدلهم عليه، لذلك لا تتابع – أخي القارئ- إلا من تثق بدينه وعلمه، الداعين إلى الله على بصيرة، المتبعين للسنة المعرضين عن البدعة
أما من ينقل عن لحلاج وجلال الدين الرومي وفلاسفة التنوير والعلمانيين ويدع الحديث وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام كأبي حنيفة مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والليث وغيرهم فالأولى حظره وعدم متابعته صيانة للدين وللعقيدة .
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين .