:الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على نبينا الكريم محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فالمتأمل في بعض الشخصيات القلقة وبرزوها في التاريخ الإسلامي قد تظهر له جوانب أخرى في حياتها ، خاصة إذا درس فكرها وتوجهها من زاوية مختلفة ، ومن هذه الشخصيات القلقة: الحسين بن منصور الحلاج والمقتول سنة 309هـ فبالإضافة إلى شطحاته العظيمة فأهل العلم ينبهون على انحراف فكري خطير عند الحلاج ألا وهو النزعة الثورية في حياته ، ومن الذين نبهوا على النزعة الثورية عند الحلاج وطمعه في استمالة بعض الفرق إليه القاضي التنوخي في كتابه نشوار المحاضرة فقال : ” حدّثني أبو الحسن بن الأزرق قال: لما قدم الحلّاج بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى، لدخوله من طريقهم…“.
واتبع الحلاج طريقة خاصة في دعوة الفرق الضالة إلى فكره ومنهجه ، وهذه الطريقة تشبه طريقة دعوية تتبعها بعض جماعات التطرف في أيامنا ، خاصة تلك التي تدعو إلى قاعدتها المشهورة : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) مما يبين أن المسألة ليست دعوة مزعومة إلى الزهد والعبادة ، قال التنوخي في نشوار المحاضرة : ” وقال لي أبو الحسن: وكان الحلّاج يدعو كلّ قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل، على حسب ما يستَبِله طائفة طائفة ” ووضح الصولي طريقة الحلاج في التلون فقال : ” قد رأيت الحلاج وجالسته ، فرأيت جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وفاجرا يتزهد، وكان ظاهره أنه ناسك صوفي، فإذا علم أن أهل بلدة يرون الاعتزال صار معتزليا، أو يرون الإمامة صار إماميا، وأراهم أن عنده علما من إمامتهم، أو رأى أهل السنة صار سنيا ، وكان خفيف الحركة مشعبذا، قد عالج الطب، وجرب الكيمياء، وكان مع جهله خبيثا، وكان يتنقل في البلدان “.
واتبع الحلاج أيضا أسلوب الإغلاظ على الولاة والسلاطين وهذا الأسلوب يستهوي العامة والغوغاء ، وله عواقب وخيمة على أمن الشعوب والبلدان قال ابن النديم في الفهرست عند حديثه عن الحلاج: ” قرأت بخط أبي الحسين عبيدالله بن أحمد بن أبي طاهر طيفور :… وكان جاهلا مقداما مُتدَهورا جسورا على السلاطين ، مرتكبا للعظائم ، يروم إقلاب الدول “.
وكان يبعث دعاته إلى الآفاق والبلدان وهذا يشبه عمل التنظيمات السرية المعاصرة في الدعوة المنظمة إلى فكرها المنحرف ، ذكر التنوخي في نشوار المحاضرة : ” أخبرني بعض أصحابه من الكتّاب، قال: خرج له توقيع إلى بعض دعاته، تلاه عليّ، فحفظت منه قوله فيه:
وقد آن الآن أوانك، للدولة الغرّاء، الفاطميّة الزهراء، المحفوفة بأهل الأرض والسماء، وأذن للفئة الظاهرة، مع قوة ضعفها في الخروج إلى خراسان، ليكشف الحقّ قناعه، ويبسط العدل باعه “.
وممن وصف الفكر الثوري للحلاج وشخصه جيدا أبو المعالي الجويني الشافعي فنقل عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان أنه قال في كتابه الشامل : ” إن هؤلاء الثلاثة تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهم قُطراً… وارتاد الحلاج قُطْر بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع ” وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه لما ألقي القبض عليه وجدوا معه كتبا ورقاعا فيها أشياء مرموزة ونودي : ” هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ” وذكر ابن الجوزي أن الحلاج كان يدعو في أول أمره إلى الرضا من آل محمد! وابن الجوزي خبير بمقالات الحلاج وفكره ، وله كتاب مستقل جمع فيه أخبار الحلاج ، قال رحمه الله في تلبيس إبليس: ” وقد جمعت في أخبار الحلاج كتابا بينت فيه حيله ومخاريقه وما قال العلماء فيه “.
ومما يؤكد أن دعوة الحلاج ليست دعوة إلى التصوف والزهد والحب والتسامح أن اتباعه غلو فيه غلوا عظيما ، قال المعري في رسالة الغفران : ” وفي الصوفية إلى اليوم من يرفع شانه ، ويجعل مع النجم مكانه ، وبلغني أن ببغداد قوما ينتظرون خروجه وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقعون ظهوره ، وليس ذلك ببدع من جهل الناس ” فأصحابه يزعمون أنه سيعود للدنيا مرة أخرى بعد موته !
وليس هذا الغلو بعجيب على من نشر فكره المنحرف بين الناس فدعاهم إلى أمور تناقض العقيدة الإسلامية فاتبعه بعض الدهماء على ذلك ، قال ابن النديم في الفهرست : ” يدعي عند أصحابه الإلهية ، ويقول بالحلول ، ويظهر مذاهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفية للعامة ، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية قد حلت فيه ، وأنه هو هو ، تعالى الله جل وتقدس عما يقول هؤلاء علوا كبيرا ” بل قال الحلاج لأصحابه قبيل قتله : ” لا يهولنكم هذا ، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما “.
ولشدة خطره قام بعض الوزراء بتنبيه الخليفة العباسي المقتدر إلى خطورة دعوة الحلاج فقال له : ” يا أمير المؤمنين: إنْ بقي، قلَب الشريعة، وارتدّ خلق على يده، وأدّى ذلك إلى زوال سلطانك…“.
ومما يؤكد أيضا خطورة فكر الحلاج كتابة مطولة عن فكره وتاريخه ذكرها كاتب عراقي معاصر أغرم بحب الحلاج حتى لقب بحلاج بغداد! ألا وهو الدكتور كامل مصطفى الشيبي فقال كتابه الصلة بين التصوف والتشيع : ” لكن الذي يعنينا من ولاية الحلاج اتصاله بالتشيع وسنرى أنه كان على صلة وثيقة جدا بمذاهبهم ومشاربهم … وقد عقد أنصار الحلاج من الصوفية صلة بينه وبين الحسين بن علي وقرنوا شهادة الحسين بقتل الحلاج في قولهم : لما وقع دمه على الأرض كتب : الله الله …
ولم يكن أمر الصلة بين الحلاج والتشيع مقصورا على التداخل بين كلامه وكلام الأئمة وإنما كان مطلعا على مذاهب التشيع كلها ، وقد استخدمها كلها في بناء مذهبه الحلولي الجديد الذي يشير إلى ظهور حركة غلو جديدة في مطلع القرن الرابع الهجري ، والحلاج هو القائل بعد شرحه للظاهر والباطن : ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة ، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده وأنا الآن على ذلك.
ونحن لهذا واجدون عند الحلاج كل مشارب الشيعة المعاصرين له والسابقين…
أما علاقته بالاثنا عشرية فتنعكس مما رواه الطوسي من أن الحلاج صار إلى قم البلد الشيعي القديم ، وكاتبَ قرابةَ أبي الحسن النوبختي الشيعي يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضا ويقول : أنا رسول الإمام ووكيله ، فطرده ابن بابويه علي بن الحسين بن موسى من داره.
ويجب أن نتذكر هنا أن الحلاج قد ظهر في أثناء غيبة مهدي الاثني عشرية ، وكان في زمن السفارة التي أشرنا إليها ، وهو هنا يريد أن يكون وكيلا للمهدي المنتظر ، وقد بين لنا القاضي التنوخي أن الحلاج في دعواه كان طمعه في الرافضة الشيعة أقوى لدخوله من طريقهم.
وتلك إشارة صريحة في اتصال الحلاج بالتشيع ، ثم روى لنا القاضي التنوخي أنه راسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه.
ويذكر لنا ابن زنجي مشربا إسماعيليا ظاهرا في الحلاج ، وذلك أنه وجد بين أوراقه وثائق تثبت صلته بالإسماعيلية ” وكان في الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إلى النواحي : توصيهم بما يدعو الناس ويأمرهم به من نقلهم من حال إلى أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى ، وأن يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم” تلك هي مراتب الإسماعيلية التي مرت بنا ، وتلك طريقتهم في بث دعوتهم كما لا يخفى.
وكان بين الأوراق أيضا كتاب فيه ” صورة فيها اسم الله مكتوب على تعويج ، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب : علي عليه السلام . كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها ” وتلك أسرار الإسماعيلية وأسلوبهم في نشر الدعوة ، وقد كانت إسماعيلية الحلاج وثبوت اتصاله بالقرامطة الذين هم إسماعيلية السبب المباشر في قتله ، وكانت إحدى التهم التي قُتل الحلاج من أجلها تتضمن إنكار الحلاج للحج إلى مكة بالذات ، ودعوته إلى الحج القائم على النية الخالصة والتوجه القلبي …هذه من الإسماعيلية بالذات…
وقد أضاف الشيعة أنفسهم الحلاج إلى التشيع ولكنهم جعلوه على لسان الشيخ المفيد من المفوضة القائلين بأن الله خلق محمد ثم فوض إليه تدبير العالم ثم فوض محمد تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب…
ومهما يكن من أمر الحلاج فقد مر بكل ما مر به الأئمة من أدوار ، وأضيف إليه كل ما أضيف إليهم : كان علمه لدنيا وكان مطلعا على اسم الله الأعظم ، وكان ممارسا للكيمياء والسيمياء وما لابسهما ، وكان قطبا وحجة وكان إلها ، وعاد في النهاية مهديا ، فأي صلة بعد أوثق من هذه الصلة بين ولايته وبين الإمامة “. انتهى كلامه.
وختاما : يصف عدد من المعاصرين فكر الحلاج بأنه فكر قاوم سلطة الاستبداد والحكام الظلمة في زمانه ، فيرونه رمزا للثورة على الولاة والأمراء الظلمة ، لذلك يثنون على فكره وطريقته ويرون في قتله مصادرة ظالمة من الطغاة لحرية الآراء والأفكار بل قال صاحب رواية معروفة عن الحلاج وفازت بعدة جوائز : ” هو رجل ذهب ضحية استبداد الحكام “، وكتبت ميسون ابنة المنحرف المعروف طارق السويدان تغريدة تثني فيها على الحلاج وتتهم بعض الناس بقتل الحلاج فتقول في تغريدة لها في تويتر : ” أنتم قتلتم الحلاج … أنتم قتلتم الروحانية في مكة .. أنتم قتلتم الله في قلوب الناس.. أنتم شوهتم دين الله ألا شاهت وجوهكم ، ويل للمكفرين” ولا أدري هل تقصد بهذه الكلمات آل سعود أم تقصد أمورا أخرى !
واهتمام عدد من الغربيين بالحلاج ليس من أجل فكره الفلسفي عن الحب الإلهي وغيره بل لاعتباره شخصية عظيمة في مجال محاربة الاستبداد والظلم وقهر الولاة ، بل صرح المستشرق الفرنسي ماسينون وهو الذي اعتنى بكتب الحلاج عناية عظيمة بأن الحلاج واجه ظلم الولاة والحكام في زمانه…
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه…