:الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
قبل مدة وجيزة تكلم معي أحدهم قبل بدء محاضرة لي عن حاله وأنه مقصر في طاعة الله وأنه أحيانا يترك الصلاة فوجهته بتوجيهات عامة حول التوبة والثبات على العمل الصالح ، وبعد المحاضرة التي لم أتطرق فيها لذكر الموت والنار والعذاب رفع نفس الشخص يده لمداخلة قال فيها : نريد توجيها للخطباء بأهمية عدم الإكثار من الموت والعذاب والنار فاستغربتُ من مداخلته ومن هذا الكلام الذي يتكرر كثيرا في الشكاية من ذكر الموت والنار ، فأجبته بجواب اذكر خلاصته في هذه السطور
إن المتأمل لنصوص الكتاب والسنة يجد أن فيها نصوصا كثيرة جدا في ذكر النعيم والجزاء العظيم لأهل الطاعات ورفعة درجاتهم في أعلى عليين وفي الكتاب والسنة تفاصيل كثيرة تتعلق باليوم الآخر وأهوال القيامة والبعث والحساب وعذاب النار بل في القرآن عدة سور سميت بأسماء يوم القيامة كسورة القيامة والتغابن والحاقة والغاشية والزلزلة وغير ذلك من الأسماء ، والله تعالى قال عن نبينه صلى الله عليه وسلم : ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) بل وصف نفسه سبحانه فقال : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الصحابة الكرام رضي الله عنهم باستخدام الترغيب والترهيب ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم إذا سمعوا تذكير النبي عليه الصلاة والسلام ولو في الترهيب تأثروا وخشعوا وبكوا خشية وتعظيما لله تعالى فعند البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا ، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين
أي : ولهم بكاء شديد عظيم
فنصوص الترهيب والتخويف من النار كانت تمر على الصحابة الكرام ويجدون لذلك تأثيرا طيبا عظيما على نفوسهم من ناحية ترقيق القلب وإخباته وإقباله على الله بل كانت قلوبهم أطهر القلوب بعد الأنبياء والرسل ، وما سبب لهم سماع شيء من نصوص الترهيب نفرة عن الدين وبعدا عنه ولم ينظروا للخطيب الذي يذكر النار والجزاء ولو في القليل النادر نظرة عتاب على تشدده وظلاميته كما يقال الآن ! فيا ترى ما سبب هذا الأمر ؟ ولنذكر السؤال بطريقة أخرى
ما بال بعضنا لا يطيق سماع شيء ولو قليل من نصوص الوعيد والجزاء والحساب والاستعداد بالعمل الصالح لما بعد الموت ؟!
سبب ذلك أيها القراء الكرام تقصيرنا في العمل الصالح ، لذلك لا نتحمل سماع هذه النصوص لأنها تحدثنا عن الحقيقة التي غفلنا عنها واليقين الذي تناسيناه ، فحتى تارك الصلاة لا يرغب أبدا بسماع شيء من نصوص الترهيب عن ترك الصلاة ! وشارب الخمر لا يرغب بسماع شيء من النصوص في خطورة فعله وعمله ، وقاطع الرحم أيضا كذلك وهكذا أيها الأحبة الفضلاء
مؤلمة جدا هذه الحقيقة ولكنها مصارحة للنفس وتذكير لها ، ولو صارحنا أنفسنا بصدق : متى ذكرنا أنفسنا بأهمية البعد عن الذنوب والمعاصي وأنها من أسباب عذاب الله وعقابه ؟! وأن لهذه الحياة نهاية يجب أن نستعد لها بالعمل الصالح والعبادات الظاهرة والقلبية التي يحبها الله ، وحسن الخلق والرحمة بالضعيف والمسكين والفقير وأداء الأمانات وغيرها من الأعمال الفاضلة ، فقد يكون الجواب كاشفا عن حقيقة مؤلمة أيضا : لقد تناسينا هذه المسائل
ومن تصور أن التذكير أحيانا بنصوص الترهيب سبب لتنغص الحياة والتشاؤم وعدم الأمل فليتأمل في سير الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد كانوا أسعد الناس عيشا ونقلوا هذا الخير للناس وسمعوا من النبي عليه الصلاة والسلام الترغيب والترهيب ، وعلى هذا المنهج سار أتباعهم إلى يوم الدين ، فمن ذلك ما قيل في ترجمة محمد بن سيرين : ” كنا نسمع بكاءه في الليل وضحكه في النهار ” وذكر بعض تلاميذه عنه : ” فإذا ذكر الموت تغير لونه واصفر وأنكرناه وكأنه ليس بالذي كان ” مع أنه كان صاحب ضحك ومزاح بل كان رحمه الله يضحك حتى تدمع عيناه
والداعية الموفق يستخدم أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله فتارة يذكر نصوص الترغيب وتارة نصوص الترهيب مع مراعاة الزمان والمكان والمخاطبين بالموعظة ، وليس من الأسلوب النبوي ذكر نصوص الترغيب فقط مع إهمال تام لنصوص الترهيب وأيضا ليس من الأسلوب النبوي في الوعظ والتذكير ذكر نصوص الترهيب فقط مع إهمال تام لنصوص الترغيب
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين