:الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد
فيقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185
إن بين رمضان وبين القرآن ارتباط وثيق، فرمضان هو شهر القرآن، وفي هذا الشهر: ينادي المنادي «يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبَلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ»([1])، وأعظمُ الخير في رمضان: أن نشغلَ أوقاتنا بالقرآن، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامة، يقول الصيامُ: أي ربِّ منعتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهار فَشَفِّعْني فيه، ويقولُ القرآنُ: ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، قال: فَيُشفَّعان»([2
فَلَيْلُ رمضانَ إنما يعمر بالقرآن، ولذلك كان جبريلُ عليه السلام يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم كلَّ ليلةٍ في رمضان يدارِسُهُ القرآن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»([3
قال ابن رجبٍ رحمه الله: “دل الحديث على استحبابِ دراسة القرآن في رمضان، والاجتماعِ على ذلك، وعَرْضِ القرآن على من هو أحفظُ له، وفيه دليل على استحباب تلاوة القرآن في شهر رمضان … وقد شرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قيامَ الليل في رمضانَ جماعةً ليسمعَ الناسُ القرآنَ”([4
وكان القراء في زمن الصحابة يقرؤون بمآت الآيات في الركعة الواحدة، حتى كان الناس يعتمدون على العصي من طول القيام، وكانوا يقرؤون القصة من القرآن كلها قصرت أم طالت، وما كانوا ينصرفون إلا مع الفجر.
قال ابن رجب رحمه الله: “وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشرة، وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، وكان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام
وكان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت، وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه، وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره([5
فرمضان شهر القرآن، والمؤمن يجتمع له في رمضان جهادان: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام وتلاوة القرآن، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفي أجره بغير حساب، فيا باغي الخير أقبل فهذا زمانك، ويا باغي الشر أقصر وانظر ما أمامك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
([1]) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
([2]) رواه أحمد.
([3]) متفق عليه.
([4]) لطائف المعارف ص(315).
([5]) لطائف المعارف ص(318).