يدرك العقلاء أن الانحراف الفكري أحد أخطر المهددات على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، ومن الأسباب الرئيسية للأعمال الإرهابية والمتطرفة، من تفجير وتدمير وإزهاق للأنفس المعصومة وتشويه للدين الحنيف
ومواجهة الفكر المنحرف من سنة التدافع بين الحق والباطل، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة؛ كما قرر ربنا جل في علاه في كتابه: ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
ومواجهة الفكر المنحرف يحتاج إلى استراتيجية علاجية ووقائية مستنيرة لمكافحته وتحصين المجتمعات من شروره، لا سيما مع سرعة انتشاره في زماننا عبر التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي
والناظر في الساحة يرى محاولات كثيرة للتصدي لمثل هذه الأفكار، وبعض هذه المحاولات في الحقيقة ربما تُذكي نار الفكر السقيم أكثر من أن تعالجه، بسبب الخطأ في طريقة العلاج
فمن الخطأ أن يتصور المرء أن علاج الفكر السقيم يكون بفكر سقيم آخر! كمن يظن أن علاج فكر داعش مثلا يكون بالعلمانية والليبرالية وأضرابها، وهذا محال فالظلام لا يُعالَج بالظلام، والمريض لا يُعالِج المريض، وكما قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حفظه الله في مقالة داعش التي وحدت العالم : ” لا بد من مواجهة هذا الفكر الخبيث بفكر مستنير “، ومثله ما قاله صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حفظه الله في كلمته التي ألقاها في ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي : ” إذا جاعت البطون أكلت الجيف كذلك العقول إذا جاعت أكلت عفونة الأفكار، ولا بد أن نملأ هذه العقول بالفكر النافع، وأحسن فكر نافع هو الإيمان بالله تعالى
وتأصيل هذا المبدأ من وجوه
أولا : لا يخفى على العاقل أن الفكر المنحرف يقوم على دوافع وتصورات وشبهات معينة، وتفنيد هذه الشبهات يحتاج لعلم تخصصي دقيق، يُدرك أصحابه أسباب نشأة الشبهة وأدلتها وكيفية الرد عليها، وطريقة رد المتشابه إلى المحكم ، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن هيأه بقوله : ” أنك تأتي قوما من أهل الكتاب “، فأهل الكتاب لديهم شبهات، يحتاجون إلى علم تخصصي وتعامل مختلف عن غيرهم، ووقع الاختيار على معاذ رضي الله عنه لأنه من العلماء
ثانيا: الفكر المنحرف الآخر الذي يُريد العلاج يحتاج هو لعلاج أصلا لأنه يحمل في طياته شبهات وانحراف من نوع آخر، ولذلك قال الله تعالى : ” بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق “؛ فالباطل يُقذف بالحق ولا يُقذف بباطل مثله
ثالثا :أصحاب الفكر المنحرف غالبا ما يستدلون على باطلهم بآيات وأحاديث وآثار وأقوال للعلماء، سواء بلي أعناقها أو أخذ بعضها دون البعض أو سوء تأويلها، وهذا النوع من الانحراف يحتاج لمن لديه دراية بالكتاب والسنة والأثر ليتحقق العلاج
رابعا: الغالب على أصحاب الأفكار المنحرفة أنهم لا يقبلون إلا بالحجج الشرعية، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وهذا الزاد لا يملكه أصحاب العلمنة ومن لف لفهم، وربما كان بعض العلمانيين يشكك في حجية السنة، وبعضهم يستهزأ بالنصوص الشرعية، وفاقد الشيء لا يعطيه
خامسا : التجارب التي نجحت في بعض الدول في العلاج كانت من خلال اختيار كوكبة متميزة بالعلم لعلاج هذه الانحرافات، وقد أشاد بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حفظه الله في مقاله السابق بقوله : ” ولعلي هنا أن أشيد بتجربة إخوتنا في المملكة العربية السعودية في هذا المجال، وقدرتهم الكبيرة على تغيير قناعات الكثير من الشباب عبر مراكز المناصحة التي أنشؤوها، ولعل المملكة بمفكريها وعلمائها، وما تمثله من مكانة روحية وفكرية لدى المسلمين، هي الأقدر والأجدر والأفضل لقيادة هذا التغيير الفكري
ختاما أقول إن علاج الفكر المنحرف يحتاج إلى فكر وسطي معتدل، فالأفكار الغالية لا تعالج بالأفكار الجافية، والتطرف لا يعالج بالتقصير، والفكر السقيم لا يعالج إلا بفكر سليم