بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد
:إخواني الأفاضل
تطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ الأول من ذي الحجّة، فهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرها أجرًا، روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) .
وفي رواية للبيهقي ” مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى
وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال : ” مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ..” وفي رواية عند ابن حبان “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ” إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ “، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ , وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ , قَالَ: ” وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ , إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصف هذه الأيام بجملة من الصفات تبين فضلها على باقي الأيام، فهي ” أفضل الأيام” وهي ” أعظم الأيام عند الله” وهي أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله سبحانه وتعالى وأزكى من سواها.
“ومن شدة تعظيم النبي – صلى الله عليه وسلم- لهذه الأيام سأل الصحابة رضوان الله عليهم عن تفضيل العمل فيها على الجهاد في سبيل الله، الذي هو من أفضل العمل، فقالوا : ” ولا الجهادُ في سبيل الله؟
“فكان الجواب منه – صلى الله عليه وسلم- : ” ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء
فدل الحديث على أن العمل الصالح في هذه الأيام المباركة يفضل الجهاد في سبيل الله، إلا لمن خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء، فهو مستثنى من هذه الأفضلية
:ومن فضائل هذه الأيام المباركة
أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها في القرآن الكريم فقال : ” وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ” ( الفجر :1-2) قال ابن كثير –رحمه الله- في التفسير: ” والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف
وقال ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف ص 595: ” وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم وهو الصحيح عن ابن عباس
:ومن فضائل هذه الأيام المباركة
أنها تحتوي على يوم عرفة، وهو يوم عظيم عند الله، إذ أقسم به في قوله تعالى : ” وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ” (البروج:3) وروى الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ” الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
:ومن فضائل هذه الأيام المباركة
“أنها تحتوي على يوم النحر، وهو من أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى، فروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ –رضي الله عنه – عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ” إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ
:ومن فضائل هذه الأيام المباركة
أنّها تجتمع فيها أعظم الأعمال ومنها الصلاة والنحر، وقد أمر الله بها في كتابه فقال : ” فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ” ( الكوثر:2) ، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في التفسير: ” خص هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات، ولأن الصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به.
وكذلك تجتمع فيها أصول العبادات، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها” انتهى.
:ومن فضائل هذه الأيام المباركة
أنها أيام وفود المسلمين على بيت الله تعالى، مستجيبين لنداء الله بالحج، في قوله تعالى : “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ” (الحج:27-28) ، وفي الحديث قول النبي – صلى الله عليه وسلم – :”الحجاج و العمار وفد الله ، دعاهم فأجابوه ، سألوه فأعطاهم
فعلى المسلم أن يبادر إلى الأعمال الصالحات في هذه الأيام من زيادة في النوافل وقراءة القرآن وذكر الله وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
” وإن أفضل ما تقرب به العبد من الأعمال فرائض الله قال الله تعالى في الحديث القدسي :” وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ
وإن مما يشرع فعله في هذه الأيّام الصيام ، فروى أبو داود عن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعَ ذي الحجة
وآكد الأيام صياماً في هذه العشر يوم عرفة، فإنه يوم مشهود معظم عند أهل السماء والأرض، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه فقال : “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ
ومن العبادات في هذه العشر الإكثار من التكبير، قَالَ تَعَالَى:( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الأيام المباركة بالذكر، فروى أحمد وغيره عَنِ ابْنِ عُمَرَ-رشي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ” مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ
وقال البخاريّ في صحيحه: (كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما
والتكبيرُ مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات في الليل والنهار من مدّة العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ ، مِن صُبح يومِ عرفة إلى عصرِ آخر أيّام التشريق
ومن العبادات في هذه الأيام الدعاء وخصوصا يوم عرفة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:” خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ومن أنواع العبادات التي تؤدى في هذه الأيام المباركة عبادة النحر وهي الأضحية ، والأضحية كما قال أهل العلم من أفضل العبادات المالية ولهذا جمع الله بينها وبين الصلاة التي هي أجل العبادات البدنية في آية واحدة فقال تعالى ” {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2)
والسلف رحمهم الله لما عرفوا قدر هذه الأيام الفاضلة عند الله اغتنموها بالعمل صالح، فعند البيهقي أن سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا, حتى ما يكاد يقدر عليه
فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها، فنبيُّكم صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه
والحمد لله رب العالمين