الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد
فلما رأيت بعض النداءات التي تهون من شأن العلمانية! والبعض الآخر يضفي عليها الصلاحية! والبعض يجعلها علاجا للأفكار الإرهابية! مع سؤال بعض الحريصين عن حقيقتها وأخطارها وأفكارها، أحببت أن أكتب في هذه العجالة ثلاثة محاور مهمة حول ذلك، راجيا من الله أن ينفع به
كشف الغطاء
قبل كل شيء قديما قالوا : ” الحكم على الشيء فرع عن تصوره “، وحُق للجميع أن يعرف حقيقة العلمانية، لأن البعض بدأ يُعرفها بما يتوافق مع هواه، ويخدم أيدلوجياته، والبعض صار يقسمها إلى علمانية سوداء وبيضاء! ومنحرفة وناعمة! والأضبط في معرفة معناها يكون بالرجوع للكتب المتخصصة للقوم لأنها من المصطلحات الغربية؛ ففي دائرة المعارف البريطانية: “هي: حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها “، وفي دائرة المعارف الأمريكية: “هى: نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية أو القوى الخارقة للطبيعة”، فخلاصة ما جاء في المعاجم الأجنبية وفي دوائر المعارف لديهم أنها: دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين في كافة مجالاته، ولا صلة لهذا المصطلح الغربي بالعلم، وإذا كانت حقيقة العلمانية إلغاء الدين وصرف الناس عن الآخرة ؛ فلماذا يتباكون عليها ؟؟
الحصاد المر
إن الناظر في المرتكزات والمعتقدات التي تقوم عليها العلمانية يدرك حقيقة هذا الفكر المظلم، وحصاده المر، ومن ذلك على سبيل المثال: الدعوة إلى إلغاء الدين كليا وعدم الإيمان بالأمور الغيبية كما دعا إليه كل من هيجيل وفيرباخ وكارل ماركس وأضرابهم، والدعوة لإنكار الإعجاز والوحي كما دعا إليه كل من فولتير وشفتسيري ووليسنج وأضرابهم، وذهبت طوائف من العلمانية إلى أن السنن والآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية إنما هى تقاليد موروثة ! ودعت العلمانية إلى الإشباع المادي مع إهمال الجوانب الروحية والنفسية، وهذا الذي أفقدهم التوازن، وفتح أبواب الجرائم والمآثم على مصراعيها، كما أن العلمانية تقوم على تطبيق مبدأ النفعية (البراجماتية) وهي تقوم على إنكار وجود الله وألوهيته، وتنكر الدين والأخلاق، وتجعل المنفعة المادية العاجلة وحدها المسيطرة على هذا المذهب، وهى أساس أي عمل أو فكرة، وتجعل مصلحة الإنسان لنفسه فوق مصالح الآخرين حتى ولو أضرَّ بهم ! كما تعتمد العلمانية على مبدأ (الميكيافيلية) في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق، وهو مبدأ يقوم على أن (الغاية تبرر الوسيلة) مهما كانت هذه الوسيلة منافية للدين والأخلاق، ومهما كانت حسنة أو سيئة، وكل هذا مقرر في مؤلفاتهم، فليت شعري بعد كل هذه الأخطار والأفكار لماذا يتباكون على العلمانية ؟؟
قياس مع الفارق
العلمانية ظهرت في ظروف معينة في القرون الوسطى نتيجة طغيان رجال الكنسية وتسلطهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، وبلوغ رغباتهم تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، وادعاء حقوق الغفران والحرمان، مع اضطهاد كل من يخالف طريقتهم، ومحاربة العلم، مع تحريفات وبدع في النصرانية، فجاءت العلمانية ردة فعل ضد الكنيسة ورجالاتها
ولا يمكن بحال أن يقاس وضع رجال الكنيسة بالإسلام الصافي، إذ هو قياس مع الفارق، فالإسلام عقيدة، وشريعة دين ودولة، حيث وضع نظاماً كاملاً ومحدداً لكل شأن من شئون الحياة، كما أَنَّه ليس في الإسلام كهنوت ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وبإمكان أي مسلم في أي مكان وفي أي زمان، من ليل أو نهار أن يتصل بربه، والإسلام يقرر أنه لا عصمة لبشر إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، كالذي حدث بين الكنيسة ورواد الفكر الغربي في عصر النهضة، بل إن الإسلام على العكس من ذلك فيه انسجام تام بينهما، ودعوة جادة من الإسلام للعلم والتعليم، والإسلام دين عالمي شمولي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، وهو بهذه الشمولية، وبهذه المرونة قد كفل لأحكامه التطبيقية المواكبة والصلاحية على مدى الأزمان، فلماذا يريدون جعل الإسلام كحال رجال الكنيسة ثم يتباكون على العلمانية ؟؟
وبعد معرفة حقيقة العلمانية، ومخاطرها وأفكارها الردية، وظروف خروجها في البلاد الأوربية ، يحق للعاقل أن يتساءل لماذا يتباكون على العلمانية ؟؟