بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد
إخواني الأفاضل
سبق وأن تكلمت في مقال سابق عن بعض مظاهر التسامح مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى في الإسلام، وبينت أن الإسلام تعامل معهم حال كونهم يعيشون على أرض الإسلام، وأعطاهم من الحقوق ما كفل لهم حياة آمنة مستقرة، وحرم الاعتداء عليهم
:ولكن السؤال الذي تطرحه الظروف الحالية والأوضاع الراهنة
إلى أي حد يكون هذا التسامح ؟
هل التسامح مع أهل الكتاب يشمل مشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم بها ؟
أقول للجواب على هذه المسألة سأبين عدة أحكام جاءت بها الشريعة في تعاملاتنا مع أهل الكتاب
:أولا : لقد حرم الإسلام التشبه بأهل الكتاب في جميع الأمور التي يختصون بها، فقد وردت النصوص الشرعية الصحيحة تنهى صراحة عن التشبه بهم، وتحذر من ذلك تحذيرا شديدا، ومن ذلك
“أ – قال تعالى مبينا طريق الهداية الذي ينبغي للمسلم سلوكه في سورة الفاتحة : ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
فالمسلم يطلب من الله أن يهديه إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، وهذا الصراط هو طريق المنعم عليهم وهم الذين بينهم الله بقوله : ” أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا” وتطلب من الله عز وجل أن يجنبك طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المقصود بهم فقال : “الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى
فدل قوله تعالى : ” غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ” على المغايرة بين طريق المنعم عليهم الموصل إلى الصراط المستقيم، وبين طريقي اليهود والنصارى الصاد عن الصراط المستقيم، وهذا فيه التحذير الشديد من سلوك طريقهم
ب – قال تعالى : ” وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
“قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : “فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة – عياذا بالله من ذلك- فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته
“ج – روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” لَيْسَ مِنَّا مِنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى
والأصل أن النهي يقتضي التحريم
:د – جاء النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة أهل الكتاب في أوقات عباداتهم وصفتها، فمن ذلك
1 – عن أبي عُمير ابن أنس عن عُمومةٍ له من الأنصار، قال: اهتمّ النبي – صلى الله عليه وسلم – للصلاةِ، كيف يجمَعُ الناس لها؟ فقيلَ له: انصِبّ رايةً عندَ حُضورِ الصلاةِ، فإذا رأَوها آذَنَ بعضُهم بعضاً، فلم يُعجِبه ذلك، قال: فذُكِرَ له القُنْعُ -يعني الشُّبّورَ، وقال زياد: شَبّورُ اليهود -فلم يُعجِبه ذلك، وقال: “هو من أمرِ اليهود” قال: فذُكِرَ له الناقوسُ، فقال: “هو من أمرِ النّصارى”.فانصرفَ عبدُ الله بنُ زيد وهو مُهتم لِهَمِّ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فأُرِيَ الأذانَ في مَنامِه ..” رواه أبو داود
وجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفض الشبور وهو البوق والناقوس لأنه من طريقة أهل الكتاب في عبادتهم
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(خَالِفُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّون فِي خِفَافِهِمْ وَلَا فِي نِعَالِهِمْ
وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود والنصارى ثم خص بالذكر طريقة في عبادتهم وهي كونهم لا يجيزون الصلاة في النعال والخفاف، وهذا يدل على أن جنس المخالفة مقصود للشرع
عن أبي هريرة، عن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- قال: “لا يَزَالُ الدينُ ظاهِراً ما عجَّل الناسُ الفِطْر، لأن اليهودَ والنصارى يُؤخِّرونَ ” رواه أبو داود
فيه دلالة على أن من أسباب ظهور الدين مخالفة اليهود والنصارى في عباداتهم
ومثله في صيام التاسع مع عاشوراء، وفي إطلاق اللحية وحف الشوارب وتغيير الشيب وفي السلام والنهي عن الجلوس مع الاتكاء على اليد اليسرى وهي خلف الظهر، وتنظيف الأفنية ، فجميع هذه الأحكام عللت بمخالفة اليهود والنصارى، مما يدلنا على أن مخالفتهم مقصودة في شرعنا في طريقة عباداتهم، وبالتالي يحرم التشبه بهم
وأما من جهة التعليل والمعنى : فإن المشابهة بالآخرين تفضي إلى نوع محبة وموالاة، فالمشابهة في الظاهر تورث تناسبا وتشابها في الباطن، والمخالفة في الظاهر توجب المباينة والمفارقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم
ثانيا : نهت الشريعة الإسلامية عن موالاة أهل الكتاب، بمعنى محبتهم المحبة الشرعية وليست الفطرية كمحبة الولد المسلم لوالده الكتابي، أو الزوج المسلم لزوجته الكتابية، فلا تدخل في النهي، بل المقصود المحبة الشرعية المقتضية للنصرة والتأييد ، وأمرت بإعلان البراءة منهم ومما يعبدون. والدليل على ذلك
“قال تعالى :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
“قال تعالى : ” قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
“قال تعالى : “لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
في هذه الآيات النهي عن موالاة أهل الكتاب والأمر بالبراءة منهم ومن عبادتهم حتى يؤمنوا بالله وحده .
“قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان : ” لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب
ولا تعارض بين البراءة منهم وعدم موالاتهم ومع الإحسان إليهم، لأن المودة تتعلق بالقلب، والإحسان إليهم يقصد منهم استمالتهم للدخول في الإسلام.
” .قال القرافي في الفروق : ” وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعين علينا أن برهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى هذا امتنع، وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها
وبعد بيان هذه الأحكام المتعلقة في تعاملنا مع اليهود والنصارى، ما هي حدود التسامح مع أهل الكتاب ؟
:الجواب
أولا : تحرم مشابهتهم في ما اختصوا به من عبادات وعادات، بل المشروع مخالفتهم فيها
بل مخالفتهم في ما اختصوا به مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية في التعامل معهم
ثانيا: تحرم مودتهم المودة القلبية بمحبتهم وتمني نصرتهم وظهورهم، وتجب البراءة مما هم فيه من الباطل والشرك والكفر بالله، وهذا يكون علانية، لأنه من مستلزمات شهادة التوحيد وظهور الإسلام على بقية الشرائع الأخرى، قال تعالى : ” هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
:ثالثا : لا تجوز مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية ولا تهنئتهم بها للأدلة التالية
أن لكل أمة عيد يختص بهم وبشرعهم، قال تعالى : “لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ” قال ابن عباس : أي عيدا
والأعياد من أخص ما تميزت به الشرائع، فموافقتهم في أعيادهم موافقة لهم في أخص شرائعهم والتي لا يجوز إظهارها فضلا عن مشاركتهم فيها
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: ” قَدِمَ رَسُولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلَّم – الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلَّم -: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ “، قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: ” إِنَّ اللهَ عزَّ وجل – قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا , يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى
فالنبي صلى الله عليهم وسلم لم يقر أهل المدينة على احتفالهم بهذا العيد الذي هو من عادات أهل الجاهلية، وقدم لهما بديلا شرعيا وهو عيد الفطر والأضحى
ولو كان الاحتفال بأعياد الكفر جائزا لما نهاهم وإنما قال : فإن الله قد زادكم
” روى الإمام أحمد عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: ” إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ
فهذا الحديث نص في مخالفتهم في عيدهم، فالسبت عيد اليهود والأحد عيد النصارى وهما يوما فرح وسرور عندهم
4 – ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال : لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم ” وإسناده صحيح
5 – جاء في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الكتاب في دار الإسلام: أن أهل الذمة لا يخرجون صليبا ولا كتابا في أسواق المسلمين ولا يظهرون أعيادهم
6 – في تهنئتهم بأعيادهم شِبهُ إقرار لهم على باطلهم، فإنهم يدعون أن عيسى عليه السلام ولد في هذا اليوم، وهذا لا دليل عليه لا في شرعهم ولا في شرعنا، بل ورد في شرعنا ما يدل على أنه ولد في الصيف وذلك في قوله تعالى : ” وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ” والرطب لا يكون إلا في الصيف
كما أنهم يقولون بعقيدة التثليث وهي عقيدة كفرية، قال تعالى : “لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
!!فالله يكفرهم ويتوعدهم بالعذاب ونحن نبارك لهم بعيدهم
كما أنهم يرفعون الصليب وهو مخالف حتى لدينهم فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه في الحديث الصحيح عن عدم رضا عيسى عليه السلام بهذا الصليب، فروى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم:يوشك المسيح عيسى ابن مريم أن ينزل حكما قسطا، وإماما عدلا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب ” وهم يرفعون الصليب في أعيادهم بل هو شعارهم، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم وثنا
وأخيرا أقول : إن القول بعدم جواز تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم ليس خروجا عن مبدأ التسامح الذي شرعه ديننا في التعامل معهم، بل هو إتباع لشرعنا وديننا في التعامل مع من يخالفوننا في الدين والاعتقاد
وفقنا الله لما يحيه ويرضاه