الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد
إن من أعظم الأمور التي جاءت الشريعة لتقريرها توحيد الله سبحانه وتعالى، فهو أهم المهمات، وأعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء والدعاة من بعدهم، قال تعالى: ” وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” [النحل:36]، كما قرر الله التوحيد في أحكام شريعته ومقاصدها، ومن ذلك عبادة الحج
فقد شرع الله الحج لتحقيق مقاصد عظيمة ، وإن من أعظم مقاصد الحج إعلان التوحيد لله تبارك وتعالى وتصفية الاعتقاد وإفراده بالقصد والطلب والتوجه والإرادة
ومن تدبر وتأمل آيات الحج وأذكاره وأعماله وجدها مشتملة على تأكيد هذا المقصد بتوحيد الله تعالى وعدم الإشراك به
ومن ذلك قول الله سبحانه و تعالى : ” وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ” ، وقوله ” وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا” [آل عمران:97] فالله سبحانه وتعالى لما أمر بإتمام المناسك، وفرض الحج على الناس جعل الأمر كله لله، ففي الأولى إتمام المناسك لله، وفي الثانية أداء الفريضة لله، وفي ذلك إشارة صريحة إلى مقصد توحيد الله وإفراده بهذا العمل
ومن مظاهر التوحيد في الحج : إعلان الحاج لنسكه المشتمل على التوحيد قائلا : لبيك اللهم حجا لا رياء فيه ولا سمعة ” فاحتوى هذا الإهلال على الإخلاص للمولى عز وجل مع البراءة من مظاهر الشرك – الرياء والسمعة – فالرياء مبطل للعمل وموجب للعقاب ،عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ ” قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ” ، و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ فيتبرأ الحاج من الرياء والسمعة في أول دخوله في النسك
ومن مظاهر التوحيد في الحج : التلبية التي تتضمن إعلان التوحيد ونفي الشرك ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين لبى النبي صلى الله عليه وسلم : فأهل بالتوحيد . فسمى التلبية توحيداً
والكون كلّه يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، مع تلبية الحجاج ، فتلبِّي الأحجار ويهتف المدر والشجر، قال صلى الله عليه وسلم : ((ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا
قال ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود : “قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة ، منها : أنها تتضمن المحبة لله تعالى ، فلا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه ، ومنها : أنها تتضمن التزام دوام العبودية لله و تمام الخضوع والذل اللذان هما من أركان العبودية لله تبارك وتعالى . ومن فوائدها أنها تتضمن الإخلاص الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها . ” ا . هـ ملخصا
وأما أهل الإشراك وعباد الأصنام فكانوا يدخلون آلهتهم مع الله في تلبيتهم فيقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ” فخالف أهل الإسلام أهل الأوثان بإعلانهم التوحيد والإخلاص لله تعالى
فعلى الملبي الذي أكرمه الله بالتلبية أن يستحضر معانيها وأن يعي دلالاتها، وأن يسعى لتحقيق مقتضياتها، فلا يسأل إلا الله ولا يستغيث إلا بالله ولا يتوكل إلا على الله ولا يذبح إلا لله، شعاره :” إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
ومن مظاهر التوحيد في الحج: الطواف حول الكعبة واستلام الركنين وتقبيل الحجر الأسود ، تحقيقاً للعبودية في قوله تعالى : ” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ” [قريش: 3] ، وقوله ” ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] واتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : خذوا عني مناسككم ” وفي ذلك كمال التوحيد ، عبودية لله ومتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ” ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادرٍ السعيُ إليها والطوافُ بالبيت الذي فيها غير مكة، وليس على وجه الأرض موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني
ومن مظاهر التوحيد في الحج : شرعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، وقراءة سورتي الكافرون والإخلاص لتضمنهما توحيد العبادة ، تنبيها للطائف أنه في عبادة لله وطاعة لأمره
ومن مظاهر التوحيد في الحج: السعي بين الصفا والمروة حيث يتذكر العبد موقف أم إسماعيل حينما نفذ ماؤها وغذاؤها في جوف لاهب ، فصارت تهرول بين الصفا والمروة قد أنهكها العطش وأضعفها الجوع ، وقد تعلق قلبها بالله، فتوكلت عليه وفوضت أمرها إليه، وقد قالت لزوجها إبراهيم :يَا إبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً ، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا ، قَالَتْ لَهُ : آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا ؛ ثُمَّ رَجَعَتْ ” وإذا برحمة الله تتداركها ، فالله لا يضيع عباده فإذا هي بالنبع يتدفق ، فيتذكر المسلم تذللها وتضرعها لله تعالى ، فيكون بذلك على يقين من أن الملجأ هو الله وحده فهو كاشف الكرب ومجيب دعوة المضطر . قال تعالى ” أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ” [النمل:62
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للحاج إذا صعد على الصفا أن يكبر الله ثلاثا ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء
ومن مظاهر التوحيد في الحج: الوقوف في عرفة الذي شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ففيه إظهار التوحيد في قوله (لا إله إلا الله وحده ) وبراءة من الشرك في قوله (وحده لا شريك له ) واعتراف بالملك والثناء على الله في قوله (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
فجميع مناسك الحج شاهدة على توحيد رب البرية سبحانه وتعالى ، يُظهر فيها العبد ذله وتعظيمه وخوفه ورجاءه واستعانته بالله وحده دون سواه
لذلك كان جزاء الحاج الجنة قال صلى الله عليه وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه