بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد
لقد منّ الله على هذه الأمة بحفظ دينها عليها، ووضع له جنودا ومجاهدين يذبون عنه تحريف المحرفين، وزيغ الزائغين، فجاهدوا في الله حق جهاده، بأن نشروا العلم وعلموه الناس، وحذروا من البدع وأهلها، حماية للدين وأحكامه
ومن صور حمايتهم للدين ردودهم على أهل البدع والأهواء، وأصحاب الفكر المنحرف، الذين زاغت قلوبهم عن اتباع الحق، وانضموا لجند إبليس في صد المؤمنين عن سلوك الصراط المستقيم، فبين أهل العلم الحق بدليله، وردوا على أهل الباطل ما استدلوا به تبعا لأهوائهم وانتماءاتهم الحزبية، وحذروا من أشخاصهم وأعيانهم لئلا يغتر بهم جاهل فيضلوه
وأساسهم الذي ينطلقون منه التوجيه النبوي السديد الذي رواه البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – هَذِهِ الآيَةَ ( هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ
ولأجل ذلك صنفوا أهل الباطل كل حسب اعتقاده وطريقته، ليحذر المسلمون طريقهم، ويتجنبوا مسالكهم
ولما رأى أهل الأهواء أن هذا المنهج – منهج الرد على أهل البدع وتصنيفهم – يضر بهم وبدعوتهم، سعوا إلى تشويهه، فمرة بأنه منهج غيبة وبهتان، ومرة يطالبون بمنهج الموازنة الذي يقوم على اغتفار المثالب والانحرافات في مقابل المآثر والإيجابيات
وفي هذه الفترة ظهر من يدعو إلى إيقاف العمل بالجرح والتعديل المتعلق بأهل البدع والأهواء، وتسفيه من يقوم به من طلبة العلم والعلماء، وإلى عدم تصنيف الناس إلى فرق وجماعات، فلا تقل هذا صوفي، أو قدري، أو خارجي، أو سلفي أو إخواني، بحجة أن دين الله واحد، وقد سمانا الله بالمسلمين كما في قوله تعالى ” هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ”، وأن تصنيف الناس بناء على اعتقاداتهم وحزبياتهم يتعارض والدفاع عن الأوطان
:وللرد على هذه الفكرة أبين أمورا
أولا : الله سبحانه هو الذي سمى المنتسبين لدينه بالمسلمين كما هو ظاهر قوله تعالى “هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ” ، وفي المقابل لم يرد نهي عن تسميتهم باسم آخر، أو تصنيفهم حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم صنف مسلمي المدينة إلى قسمين: مهاجرين وأنصار، ولو كان ذلك منهيا عنه لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
ثانيا : اسم المسلم يطلق على الرجل في مقابل غير المسلم، لأنه مستسلم لله تعالى بالطاعة، منقاد له، ومذعن له بخلاف غير المسلم، قال تعالى :” رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ” الحجر 2
وليس في ذلك دلالة على منع تصنيف الناس
ثالثا: الصحابة والتابعون وأهل التفسير من أهل السنة والجماعة قاطبة مع حفظهم لهذه الآية وتفسيرهم لها وعملهم بها لم يحملوها على هذا الفهم الذي يدعو له أهل الأهواء، ولذلك نجد أنهم صنفوا الناس على حسب معتقداتهم، كما سيأتي بيانه
فظهر عدم صحة الاستدلال بالآية على منع التصنيف
رابعا : ورد تصنيف الناس وتقسيمهم على حسب إسلامهم وكفرهم، وعلى حسب طاعتهم ومعصيتهم في القرآن الكريم، فدل على أن تصنيف الناس ليس بمذموم
:ومن ذلك
قال تعالى : “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)” الفاتحة 7
فقسم الله أتباع الصراط إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، وقد صنف أنواعهم في سورة النساء فقال : ” مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ” النساء69
القسم الثاني: المغضوب عليهم وهو اليهود، والقسم الثالث: النصارى
وكذلك أول سورة البقرة صنف الله الناس إلى ثلاثة أقسام : مؤمنين وكفار ومنافقين
وصنف الله عباده المؤمنين من حيث القرب منه إلى ثلاثة أقسام فقال سبحانه : ” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ” فاطر 32
فأولهم: الظالم لنفسه ، وثانيهم : المقتصد ، وثالهم : السابق بالخيرات
خامسا: ورد تصنيف الناس وتقسيمهم في السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صنف المسلمين إلى طائفتين: المهاجرين والأنصار
ووصف الخوارج حذر منهم، وإن لم يكن قد ذكرهم بالاسم، ولكن ورد اسمهم عن الصحابة رضوان الله عليهم، فعن يسير بن عمرو قال سألت سهل بن حنيف هل سمعت النبى -صلى الله عليه وسلم- يذكر الخوارج فقال سمعته – وأشار بيده نحو المشرق « قوم يقرءون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».رواه مسلم
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم القدرية وحذر منهم وذمهم، فروى ابن أبي عاصم في السنة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم” وحسن إسناده الألباني
وقال صلى الله عليه وسلم:صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض : القدرية و المرجئة ” رواه ابن أبي عاصم في السنة ح 982 (ينظر الصحيحة 2748)
وهذا نوع من تصنيف الناس على وفق انحرافهم عن السنة
سادسا: ورد تصنيف المسلمين على حسب اتباعهم للسنة من عدمها عن خير القرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وهذا مشتهر منتشر، يجف مداد القلم في نقله وتعداده
ويكفيك أيها الموفق النظر في كتب السير والتراجم وكتب الاعتقاد لتقف على ذلك بنفسك، حيث صنفوا الأشخاص على حسب بدعهم فهذا خارجي وهذا مرجئ وهذا قدري ، بل كل فرقة قد صُنفت إلى أصناف بناء على الاختلاف الواقع فيها .
سابعا: نرى بعض منكري التصنيف يستخدمون التصنيف، فلهم ردود على داعش، والإخوان المسلمين
فإما أن يثبتوا التصنيف فيصنفوا الناس بعد ذلك، وإما أن ينكروه، فينكروا على أنفسهم، ويكتفي أحدهم بأن يقول : المسلمون الذين في العراق أو المسلمون الذين يتبعون حسن البنا، ولا يقل داعشي ولا إخواني .ال الشيخ عبد السلام برجس محذرا من أمثال هذه الثلة من الناس: ” والعجب أن يخرج أناس ينتسبون إلى السنة التصنيف لهم جائز على كل الوجوه، وعلى ما يشاءون ويختارون، أما غيرهم فهو في حقهم من الموبقات السبع، فهم يصنفون من شاءوا بأهوائهم، ولا يرضون تصنيف آخرين من أهل البدع بمجرد هواهم أيضا
وإذا صنف أهل الحق أحد أسيادهم ومتبوعيهم ممن تلبس ببدعة ظاهرة غضبوا غضبا شديدا وأغلقوا أبواب التصنيف وأبواب الجرح والتعديل في وجوههم
ينظر : مجموع المحاضرات فيما يخص الدعوة والدعاة ص 13 ضمن مجموع مؤلفات وتحقيقات الشيخ عبد السلام برجس ج 3
أقول: وكأن الشيخ رحمه الله يرد على المفتونين من أهل زماننا، ويثبت لنا أن أهل الأهواء مشاربهم واحدة وإن تلبسوا بالسنة
الأمر السادس: للتصنيف في باب اتباع السنة من عدمه فائدة عظمى، وهي كما قال تعالى :” وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ” ، قال ابن كثير في تفسيره: “وَلِتَظْهَرَ طَرِيقُ الْمُجْرِمِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ” وقال الشيخ السعدي في تفسيره : “فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل
وإلا بربك قل لي كيف يمكن للمسلم بدون تصنيف أن يتعرف على الفِرِقِ التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :”وإن أمتى ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة وهى الجماعة ” رواه ابن ماجة
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر التفرق الحاصل بين المسلمين، فقوله ” أمتي” هي أمة الإجابة وليست أمة الدعوة، بين الفرقة الناجية بقوله ” الجماعة” ولم يقل المسلمون
فمن فائدة التصنيف معرفة الفرق الضالة التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها لنحذرها ونتجنب طريقها
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد لابن القيم ص: 109: ” وكل مَا خَالف الرَّسُول فَهُوَ من الْجَهْل فَمن لم يعرف سَبِيل الْمُجْرمين وَلم تستبن لَهُ أوشك أَن يظنّ فِي بعض سبيلهم أَنَّهَا من سَبِيل الْمُؤمنِينَ كَمَا وَقع فِي هَذِه الْأمة من أُمُور كَثِيرَة فِي بَاب الِاعْتِقَاد وَالْعلم وَالْعَمَل هِيَ من سَبِيل الْمُجْرمين وَالْكفَّار وأعداء الرُّسُل، أدخلها من لم يعرف أَنَّهَا من سبيلهم فِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ، ودعا إِلَيْهَا وكفّر من خالفها واستحل مِنْهُ مَا حرمه الله وَرَسُوله، كَمَا وَقع لأكْثر أهل الْبدع من الْجَهْمِية والقدرية والخوارج وَالرَّوَافِض وأشباههم”
الأمر الثامن: القول بعدم تصنيف الناس على حسب انحرافهم عن السنة قول يتعارض مع سياسة الدولة من اعتبار بعض هذه الجماعات والفرق محظورا في الدولة، مع تجريم المنتسب إليهم، كجماعة الإخوان المسلمين، وداعش، والنصرة وغيرهم
فيظهر مما سبق أن تصنيف الناس بعدل وحق بناء على انتماءاتهم الحزبية، أو بدعهم الاعتقادية، من الدفاع عن دين الله تعالى ، والدفاع عن بلاد المسلمين.
وهنا كلمة جميلة للشيخ عبد السلام برجس رحمه الله يبين فيه أهمية هذا التصنيف: ” ” فتصنيف الناس ونسبتهم إلى عقائدهم ونحلهم وصفاتهم من حيث الحكم والقواعد ليس علما مخترعا، وليس علما جديدا، بل هو علم الجرح والتعديل، الذي لا ينقطع من هذه الأمة ما بقي الليل والنهار، فمن رام أن يطفئ نور هذا الفن لخاطر حزبه، أو خوفا على محبوبيه المجروحين فقد ضل وأضل وشقي وأشقى
فتصنيف الناس بحق وبصيرة حراسة لدين الله سبحانه وتعالى وهو جند من جنود الله سبحانه وتعالى ينفي عن دين الله تعالى تحريف الغالين .. وزيغ المبتدعين ومكر الخوارج المارقين … فالتصنيف رقابة تترصد، ومنظار يتطلع إلى كل محدث، فيرجمه بشهاب ثاقب لا تقوم له قائمة بعده، حيث يفتضح أمره ويظهر عوره” مجموع المحاضرات فيما يخص الدعوة والدعاة ص 13 ضمن مجموع مؤلفات وتحقيقات الشيخ عبد السلام برجس ج 3
:وأخيرا أبين خطورة هذا المنهج القائم على تمييع التعامل مع أرباب البدع والأحزاب، على الدين وأمن الوطن
:أولا خطورته على الدين
يهدم عقيدة الولاء والبراء مع أهل البدع المخالفين لأصول الدين*
يهدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة ببيان خطورة هذه العقائد والحزبيات وأربابها*
حقيقة هذا المنهج أنه امتداد صريح للقاعدة الإخوانية : نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه*
فأصحاب هذا المنهج يدعون إلى الوحدة بين جميع الفرق والأحزاب لأجل الدفاع عن الوطن – على حد زعمهم- وهذا يلزم منه أن يتغاضى أهل الحق عن مخالفات أهل الباطل حتى تتم الوحدة المزعومة
هذا المنهج يسعى لإلغاء منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل البدع، كالتحذير منهم وهجرهم ومناظرتهم*
5 – يسعى هذا المنهج إلى الطعن في مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام وطريقتهم في التعامل مع أهل البدع من أصحاب العقائد المخالفة والأحزاب المارقة، حيث يظهر منهجه بأنه منهج غلو وجفاء
بل قد صرح بعض المفتونين بأن فرقة داعش الخارجية نبتة سلفية، وأن سبب خروجها هو مذهب السلف، فكل ذلك نتاج هذا المنهج الفاسد
يدعو هذا المنهج – الرامي إلى منع تصنيف الناس بناء على اعتقاداتهم الفاسدة وحزبياتهم المقيتة – إلى إغفال هذه الحزبيات على الرغم من خطورتها على أمن الدولة، وعدم ذكرهم بأسمائهم وجماعاتهم، مما يقوي شوكتهم، كالإخوان المسلمين والخوارج والمتصوفة
:والتاريخ شاهد على هذه النتيجة
من الذي سهل للتتار دخول بغداد ؟ إلا أهل البدع من الرافضى
من الذي سهل للصلبيين دخول بلاد المغرب ؟ إلا أهل البدع من أصحاب الزوايا
:ثم يتبجح بعض المفتونين بقوله
وحدة الصف مطلوبة للدفاع عن الوطن وإن اختلفت الكلمة
فهذا في الحقيقة يهدف إلى ضرب الدولة من الداخل، بواسطة هذه القواعد البدعية المخالفة لمنهج السلف الصالح
وأخيرا : ما كتبته للرد على هؤلاء المفتونين شيء يسير من بيان خطرهم وخطر طريقتهم على الإسلام وبلاد المسلمين، وإلا فإن ما ينطوي عليه هذا المنهج من أخطار جسيمة أضعاف ما ذكرت، ومما يزيد خطورته ظهور أربابه بمظهر الوسيطة والمدافع عن الوطن، وهو يضمر السوء والخيانة له
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه