حقيقة دعوة الرسل، والدين الذي يريده الله سبحانه وتعالى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ” إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ” وعن المستظل بن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب، فقال: «قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب»، فقام إليه رجل من المسلمين فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: «حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم»
(أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي).
وصدق رحمه الله، فقد ظهر في الساحة الإعلامية من يتكلم باسم الإسلام، مستدلاً بآيات من كتاب الله، وبأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أمور تخالف قطعيات الدين ومسلماته، وما أجمع عليه العلماء والمسلمون من أمور العقيدة.
واستدلاله بالنصوص الشرعية مبني على تأويلات باطلة، وأقيسة فاسدة، وأفكار منحرفة، يحاول أن يدعمها بأدلة شرعية لتلقى قبولاً لدى الناس، فيدس السم في العسل، موهماً إياهم بأنه من أصحاب الفكر العقلاني، والحداثة المعاصرة، والتيسير المنابذ للتشدد، والتنوير المضاد للظلاميين على حد زعمه .
في حين أن فكره مضاد لمقصد الدين الإسلامي وللغرض الذي بعث الله لأجله الرسل، وأنزل الكتب، فتراه يهون من أمر الكفر بالله والشرك به، فيرى أنّ من التيسير وعدم التشدد مع غير المسلمين اعتبارهم مؤمنين ولو كانوا مشركين، وأنّ ما يعبدونه من دون الله من أوثان وأنبياء نوع من الإيمان المحمود، فلا يجوز الإنكار عليهم، ولا يجوز بغض ما هم عليه من الكفر والشرك بالله.
وهذا التصور الخاطئ مبني على عدم فهمهم لمقصود الشريعة الإسلامية، ولا للغرض من إرسال الرسل، ولا لحال أقوامهم مع رسلهم، وعدم معرفتهم سبب عدم إيمان الأقوام برسلهم وأنبيائهم.
والصحيح أنه لا بد أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم كانوا يعرفون الله، وكانوا يتعبدون ويتقربون إليه بشيء من العبادات المتوارثة عن الأمم السابقة كاليهود والنصارى، ما ورد عن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وأما عن معرفة أهل الجاهلية بالله فإنهم كانوا يقرون بأنّ الله هو الخالق الرازق المدبر للكون، قال تعالى : ” وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ” [العنكبوت:61] وقال سبحانه : ” قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ” [يونس :30-31 ]
وأما عن العبادات التي كانوا يتقربون بها إلى الله فكثيرة منها الصلاة والحج، كما قال تعالى : ” وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ” [الأنفال:35 ]، والنذر بالطاعة كما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قَالَ « فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ » فكان النذر بفعل الطاعات معروفا قبل الإسلام .
وكذلك كانوا يصومون كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَصُومُهُ”.
إذا لماذا عارض أهل قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به ؟
الجواب : أنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بل تقربوا بالعبادة إلى الله وإلى الأوثان والأصنام والأنبياء والصالحين، فلم يقبل الله عبادتهم، فمعرفتهم بالله وعبادتهم تتعارض مع مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، التي تحتوي على ركنين أساسين وهما النفي والإثبات، نفي تأليه كل ما اتخذ آلهة تعبد، وإثبات الألوهية لرب واحد معبود وهو الله سبحانه وتعالى .
قال تعالى مبيناً حقيقة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي رفضها أهل قريش : ” وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ” [ص:4-6]
وأخبر سبحانه عن السبب الذي لأجله رفض كفار قريش الكفر بجميع ما اتخذوه آلهة مع الله، وإخلاص العبادة لرب واحد هو الله، وهو رغبتهم في التقرب إلى الله بواسطة هذه الآلهة المزعومة، فهي واسطة بينهم وبين الله، قال تعالى : ” أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ” [الزمر:3 ] ، وقال سبحانه : ” وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ” [يونس:18].
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يرتض منهم كل ذلك حتى يؤمنوا بالله وحده لا شريك له، ويصرفوا له جميع عباداتهم القولية والفعلية الظاهرة والباطنة.
وهذه هي حقيقة دعوة الرسل والأنبياء، أرسلهم الله ليبينوا للناس المقصد من خلقهم، ويعرفوهم بالإله الحق المعبود، ويبينوا لهم العبادة التي سيتقربون بها إلى إلههم، والجزاء المترتب على الطاعة، والعقوبة المترتبة على المعصية.
قال تعالى مبينا المقصد من إرسال الرسل : ” وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” [النحل:36]
وبين الرسل جميعا خطورة الإخلال بعقيدة إفراد الله بالعبادة، واتخاذ الشركاء معه في العبادة، فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه فيقول لهم : ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ” [الأعراف:59].
فأمر نوح قومه بعبادة الله وحده دون سواه، وبين لقومه أن عدم تحقيق هذا المقصد سيعرضهم للعقوبة في يوم القيامة، ولكن قومه أصروا على تأليه غير الله سبحانه وتعالى، ” وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ” [نوح:23]، فماذا كانت العقوبة ؟
قال تعالى : ” مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا” [نوح:25]
وهذا نبي الله هود عليه السلام أرسله الله إلى عاد ليدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة وترك تأليه غيره فقال سبحانه : ” وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ” [الأعراف:65 ]، فأجابوه قائلين : ” قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ” [الأعراف: 70 ].
فلما عتوا عن أمر ربهم ولم يحققوا المقصد من خلقهم ولم يستجيبوا لرسولهم جاءهم الجزاء من ربهم، قال تعالى : ” قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ” [الأعراف:71-72]
وهذا نبي الله عيسى عليه السلام يأمر قومه بأن يفردوا الله بالعبادة ولا يصرفوها لكائن من كان، ولو كان له شخصيا، وبين لهم أن عدم تحقيق هذا الأمر يؤدي بهم إلى الشرك المتوعد صاحبه بالعذاب الأليم، قال تعالى : ” لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ” [المائدة:72-73 ].
واستقراء هذا المعنى في كتاب الله يسير وسهل، وما ذكرته إنما هو أمثلة تبين حقيقة دعوة الرسل عليهم السلام، وأنهم لم يرتضوا من أقوامهم صرف شيء من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى.
وفي ذلك دلالة على وحدة المقصد والغاية والهدف، وأن ما جاؤوا به هو الدين الذي أراده الله ورضيه من الناس، كما قال تعالى : “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)” [آل عمران:81-85]
لذلك من كفر وكذب برسول من رسل الله كان كافرا بجميعهم، قال الله تبارك وتعالى عن قوح نوح: ” كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ” [الشعراء:105] فمع أن قوم نوح كذبوا بنبيهم نوح عليه السلام، لكن عدّهم الله مكذبين بجميع الرسل، لأنّ جميع الأنبياء والرسل جاؤوا بعقيدة واحدة ودين واحد على جميع البشر اتباعه والكفر بما عداه .
فكيف يُقال بعد ذلك أنّ من عبد الله غير، واتخذه آلهة، وكفر باليوم الآخر، ولم يؤمن بجميع الرسل أنه من المؤمنين، وقد قال الله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا” [النساء:136].