:الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: “أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيًّا فَأَكْرَمَهُ، فقَالَ لَهُ: «ائْتِنَا»، فَأَتَاهُ، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ حَاجَتَكَ»، قَالَ: نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ»؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، ضَلُّوا الطَّرِيقَ، فقَالَ: مَا هَذَا؟، فقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ؟، قَالَ: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ، فقَالَ: دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، قَالَتْ: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: وَمَا حُكْمُكِ؟، قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ، فَقَالَتْ: أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ، فَأَنْضَبُوهُ، فَقَالَتْ: احْتَفِرُوا، فَاحْتَفَرُوا، فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ»([1]).
فهذه القصة درس عظيم في علو الهمة وطلب المعالي، لاسيما ونحن في شهر ينادي فيه المنادي: يا باغي الخير أقبل، فهذه العجوز لما أتيحت لها فرصة السؤال والاشتراط ما رضيت إلا بأعلى المطالب، وهو مرافقة كليم الله موسى في الجنة، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مثلا يحتذى بها في طلب معالي الأمور، وهذا كالاستنكار على الأعرابي الذي عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال، وأمره بالطلب، فطلب ناقة بمتاعها، وأعنزا يحلبها، وهذا متاع من أمتعة الدنيا التي لا تعادل شيئا من خير الآخرة، وهذا إرشاد للناس أن يسعوا إلى طلب المعالي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس هذا في نفوس أصحابه رضي الله عنهم، فهذا ربيعة بن كعب رضي الله عنه كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة: «هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ»؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «أَوَغَيْرَ ذَلِكَ»؟قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هِيَ حَاجَتِي، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»([2]).
وكان يقول لأصحابه رضي الله عنهم: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ»([3]).
فلابد من رفع الهمم، فالمعالي لا تنال إلا بالهمم العالية، قال ابن القيم: “إنما تفاوتوا بالهمم لا بالصور”([4]).
وقال ابن الجوزي: “البكاءُ ينبغي أن يكون على خساسةِ الهمم”([5]).
وفي قصة هذه العجوز فوائد عظيمة، منها:
– أن مخالفة عهود الأنبياء ضلال، فيوسف عليه السلام أخذ على بني إسرائيل موثقا من الله أن لا يخرجوا من مصر حتى يأخذوا جسده معهم، فلما خالفوا العهد وأرادوا الخروج بدونه ضلوا.
– أن العلم نجاة، فهذه العجوز ما نجت في الدنيا والآخرة إلا بعلمها.
– أن العلم سبب لرفعة الإنسان وعلو منزلته في الآخرة حتى يصل به العلو إلى مرافقة الأنبياء في الجنة، فهذه العجوز علمها بمكان قبر يوسف مكنها لأن تكون رفيقة موسى الكليم عليه السلام في الجنة.
– أن ضرب الأمثال في التعليم منهج نبوي.
– حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والدعوة، حيث لم يواجه الأعرابي ولم يقل له: أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟ وإنما خاطب الصحابة كلهم، فلم يحرجه، وأفاد الجميع، فالكل بحاجة لرفع الهمة وطلب المعالي.
والحمد لله رب العالمين