:الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد
فإن الإسلام جاء بجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وما من شيء يُقَرِّب إلى الله والجنة إلا ودلنا عليه، وقد تُركنا على المحجة البيضاء، والجادة الواضحة التي ليلها كنهارها، ليس فيها لبس ولا غموض، ولا يزيغ عنها إلا هالك، وإن من أهم المسائل التي وُضِّحت وبُيِّنت مسائل السلطان، بينها الله الله عز وجل بيانا شائعا ذائعا بكل وجه من أنواع البيان، شرعا وقدرا، إذ الخلل في هذا الباب يجر الأمة إلى شر وبلاء، ومن تأمل في التواريخ والسير، واعتبر بما فيها من العبر، رأى الخير كله في امتثال هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – وتوجيهاته.
قال ابن تيمية – رحمه الله -: “ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولى الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور”([1]).
وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتمسك بهديه، خاصة عند الفتن والاختلاف الشديد، واختلال أمور السلطان. فعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عهد إلى الصحابة فقال: «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلاَفًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»([2]). وفي رواية: “قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ»([3]).
فأمر بالتمسك بالسنة ولزوم الجماعة عند الفتن والاختلاف الشديد.
وعن حذيفة – رضي الله عنه – قال: “كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»([4]). وهذا أمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم عند الفتن.
قال النووي – رحمه الله -: “وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية، وفيه معجزات لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي هذه الأمور التي أخبر بها وقد وقعت كلها”([5]).
وقال ابن حجر – رحمه الله -: “وقال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم «دعاة على أبواب جهنم» ولم يقل فيهم “تعرف وتنكر” كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة. قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدًا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر”([6]).
وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالصبر على جور الأئمة في كل الأحوال، وعلى مدى الحياة. فعن أُسيد بن حُضير – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:«إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»([7]). وفي رواية عن أنس – رضي الله عنه -: «سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فإني عَلَى الْحَوْضِ»([8]).
وهذا أمر بالصبر على الأثرة والظلم وهي نوع من الفتن حتى الممات. قال ابن حجر رحمه الله: قوله: “فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ” أي يوم القيامة. وفي رواية “حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فإني عَلَى الْحَوْضِ” أي اصبروا حتى تموتوا، فإنكم ستجدونني عند الحوض، فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم والثواب الجزيل على الصبر”([9]).
وعن عبداللَّه بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا»، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ من أَدْرَكَ مِنَّا ذلك؟ قال: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الذي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الذي لَكُمْ»([10]).
قال ابن تيمية – رحمه الله -: “فقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورًا منكرة، ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ونسأل الله الحق الذي لنا، ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم”([11]).
وقال النووي – رحمه الله -: “هذا من معجزات النبوة وقد وقع هذا الإخبار متكررًا ووجد مخبره متكررًا، وفيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالمـًا عسوفًا فيعطى حقه من الطاعة ولا يخرج عليه ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه”([12]).
وعن عوف بن مالك – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:“شِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فقال لَا ما أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ وإذا رَأَيْتُمْ من وُلَاتِكُمْ شيئا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ ولا تَنْزِعُوا يَدًا من طَاعَةٍ”. وفي رواية: “ألا من وَلِيَ عليه وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شيئا من مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ ما يَأْتِي من مَعْصِيَةِ اللَّهِ ولا يَنْزِعَنَّ يَدًا من طَاعَةٍ”([13]).
:فأخبر أنهم بلغوا في الشر مبلغ اللعن والبغض، ومع ذلك أمر بأمرين اثنين
الأول: “فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ”.
الثاني: “ولا تَنْزِعُوا يَدًا من طَاعَةٍ”. وهو أمر بلزوم الجماعة.
وعن سلمة بن يزيد الجُعْفي – رضي الله عنه – أنه سأل رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “يا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إن قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فما تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عنه ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عنه ثُمَّ سَأَلَهُ في الثَّانِيَةِ أو في الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بن قَيْسٍ وقال: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عليهم ما حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ»([14]).
قال النووي – رحمه الله -: “أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم، وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم”([15]).
وعن حذيفة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ولا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إِنْسٍ قال قلت كَيْفَ أَصْنَعُ يا رَسُولَ اللَّهِ إن أَدْرَكْتُ ذلك قال تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ”([16]).
فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أخبر عن حال شرار الأئمة وأنهم يبغضون رعاياهم، ويلعنونهم، وأنهم دعاة على أبواب جهنم، وأنهم يأتون المعاصي والأمور المنكرة، ويستأثرون بالأموال ونحوها، ويمنعون حقوق الناس، ولا يهتدون بهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يستنون بسنته، وأن بطانتهم ورجالهم قلوبهم قلوب الشياطين في الشر ومنع الخير، وهذا غاية السوء والفساد، ومع ذلك أمر بكراهة ما يأتون من المعاصي بالقلب، وعدم نزع يد الطاعة، وعدم المنابذة بالسيف والخروج عليهم، بل أمر الناس بأداء حق الأئمة عليهم، وهو السمع والطاعة في المعروف، وسؤال الله الحق الذي لهم، وأمر بالصبر على جورهم وأثرتهم حتى الممات، بل أمر بالسمع والطاعة وإن أخذ الأمير مال الإنسان وضرب ظهره على ذلك، وحذر التحذير الشديد من المفارقة وعدم الصبر على الجور، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»([17]).
فهل بعد هذا البيان من بيان، وهل بعد هذه التوجيهات حجة لمنابذ.
قال النووي – رحمه الله -: “وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم”([18]).
قال ابن حجر – رحمه الله -: “قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكني عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق”([19]).
وقد أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – البيعة على الصحابة -رضي الله عنهم – في التزام هذا المنهج، فعن عبادة ابن الصامت – رضي الله عنه – قال: “دَعَانَا رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قال إلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ من اللَّهِ فيه بُرْهَانٌ”([20]).
وهذا يدل على أن هذا الباب قد يخالف هوى النفس، فالبيعة جاءت في حال العسر والكره والأثرة.
قال ابن القيم – رحمه الله – عن مخالفة هذا النهج: “فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر”([21]).
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين هذا الباب أتم بيان، وأحاطه بأوامر وأحكام لا يمكن تجاوزها إلا عند غلبة الهوى واستحكام الجهل، وحذر التحذير الشديد من المفارقة، ولو كانت يسيرة، وبين أن من استذل الإمارة لقي الله عز وجل ولا وجه له عنده، وأن من أهان سلطان الله فإن الله سيهينه، في أحاديث كثيرة متواترة، وحفاظا على هذا الأصل، وحماية لجنابه، حرَّم أهل السنة والجماعة التشهير بولاة الأمر، وذكر معايبهم، وسبهم، وسوء الأدب معهم، والجهر بنصيحتهم، إلى غير ذلك من الأمور التي تُضعف هيبة السلطان، وتنقص مكانته في القلوب، مما يوهن عقد السمع والطاعة، ويفرق الجماعة، ولقد زعم بعض خوارج عصرنا، ومثيري الفتن، ومتصدري الضلال، من المتشبعين بما لم يعطوا، المقيمين للدعاوى العريضة على السراب والوهم، أن معنى الخروج على الحاكم قاصر على الخروج بالسلاح فقط، وأن الخروج باللسان سبا وطعنا وذكر مثالب لا يعد خروجا عند أهل السنة، وأن القول بعدم المجاهرة في نصيحة ولاة الأمر بدعة ادعاها مغتصبو الفتيا ومدعو العلم، وهذا القول إنما يقبل وينطلي على مبدأ من يقول: اكذب اكذب اكذب حتى يقال صادق، وإلا فأهل السنة كلامهم في هذا أوضح من شمس النهار، وقعد الخوارج عندهم أخبث الخوارج، ففي مسائل الإمام أحمد رحمه الله: “قعد الخوارج هم أخبث الخوارج”([22]).
قال ابن حجر رحمه الله: “والقعدية الذين يزينون الخروج على السلطان ولا يباشرون ذلك”([23]).
فهؤلاء لم يحملوا سلاحا، وإنما زينوا الخروج بألسنتهم بذكر مثالب الولاة والتشهير بهم ونحو ذلك، وهم أخبث الخوارج، لأنه لا يكون خروج بالسنان إلا وقد سبقه خروج باللسان.
قال ابن تيمية رحمه الله: “الشجار بالألسنة والأيدي أصل لِما جرى بين الأمة بعد ذلك في الدين والدنيا، فليعتبر العاقل بذلك، وهو مذهب أهل السنة والجماعة”([24]). هذا هو مذهب أهل السنة لا كما يدعيه هذا المفتون، ودليل هذا عندهم حديث الرجل الذي اعترض على قسمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلسانه قائلا: يا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ قال: “وَيْلَكَ أو لست أَحَقَّ أَهْلِ الأرض أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ” قال: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ قال ثُمَّ نَظَرَ إليه وهو مُقَفٍّ فقال: “إنه يَخْرُجُ من ضِئْضِئِ هذا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ وَأَظُنُّهُ قال لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ”([25]).
فهذا إنما خرج بلسانه، فدل على أصل الخروج يكون باللسان. قال الشوكاني رحمه الله شارحا قول صاحب حدائق الأزهار: “ويؤدب من يثبط عنه، أو ينفى، ومن عاداه فبقلبه مخطىء، وبلسانه فاسق، وبيده محارب”. قال: “وأما قوله “ويؤدب من يثبط عنه” فالواجب دفعه عن هذا التثبيط، فإن كف وإلا كان مستحقا لتغليظ العقوبة والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره، لأنه مرتكب لمحرم عظيم، وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء، وتهتك عندها الحرم، وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام، وقد ثبت في الصحيح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية”. وأما قوله: “ومن عاداه إلخ” فلا يخفاك أن الممنوع منه إنما هو المعصية له وترك الطاعة في غير المعصية والخروج عليه لما تواتر من الأحاديث كما عرفت، ومن مقدمات الخروج عليه: ما تقدم ذكره من التثبيط وتهييج الشر وإذكاء ناره وفتح أبوابه”([26]).
فالتثبيط _ وهو التكلم عليه وتقليل هيبته والدعوة إلى منازعته ونحو ذلك _ وتهييج الشر وإذكاء ناره وفتح أبوابه، مقدمات الخروج على السلطان، فكيف يكون هذا مذهبا لأهل السنة، وهو الفارق بينهم وبين الخوارج، فقول هذا المفتون أن معنى الخروج المذموم عند أهل السنة ما كان بالسلاح فقط قول باطل، وافتراء على أهل السنة، وقد تكاثرت الآثار والأقوال عنهم في النهي عن ذلك وذمه، قال أنس – رضي الله عنه -: “كان الأكابر من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينهوننا عن سب الأمراء”([27]).ففي هذا الأثر: اتفاق أكابر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تحريم الوقيعة في الأمراء بالسب. “وهذا النهي منهم -رضي الله عنهم- ليس تعظيماً لذوات الأمراء وإنما لعظم المسئولية التي وكلت إليهم في الشرع، والتي لا يقام بها على الوجه المطلوب مع وجود سبهم والواقعية فيهم، لأن سبهم يفضي إلي عدم طاعتهم في المعروف وإلي إيغار صدور العامة عليهم مما يفتح مجالاً للفوضى التي لا تعود على الناس إلا بالشر المستطير، كما أن مطاف سبهم ينتهي بالخروج عليهم وقتالهم وتلك الطامة الكبرى والمصيبة العظمي”([28]). وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: “إن أول نفاق المرء طعنه على إمامه”([29]). وعن أبي جمرة الضبعي قال: “لما بلغني تحريق البيت خرجت إلى مكة، واختلفت إلى ابن عباس، حتى عرفني واستأنس بي، فسببت الحجاج عند ابن عباس فقال: “لا تكن عوناً للشيطان”([30]). وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: “إياكم والطعن على الأئمة، فإن الطعن عليهم هي الحالقة، حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إن الطعانين هم الخائبون وشرار الأشرار”([31]). “ففي هذه الآثار – وما جاء في معناها – دليل جلي، وحجة قوية على المنع الشديد والنهي الأكيد عن سب الأمراء، وذكر معايبهم.
فليقف المسلم حيث وقف القوم فهم خير الناس بشهادة سيد الناس – صلى الله عليه وسلم – عن علم وقفوا وببصر نافد كفوا فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر. “فمن خالف هذا المنهج، واتبع هواه، فلا ريب أن قلبه مليء بالغل إذ أن السباب والشتائم ينافي النصح للولاة، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ”. ومن ظن أن الوقوع في ولاة الأمر بسبهم وانتقاصهم من شرع الله تعالى أو من إنكار المنكر ونحو ذلك، فقد ضل وقال على الله وعلى شرعه غير الحق، بل هو مخالف لمقتضي الكتاب والسنة، وما نطقت به آثار سلف الأمة”([32]).
فحق الإمام على الرعية ما قاله ابن جماعة رحمه الله: “رد القلوب النافرة عنه إليه وجمع محبة الناس عليه لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة”، وليس تنفير الناس عنه، وصد الناس عن طاعته، وذكر مثالبه كما يفعله هذا المفتون وأمثاله من خوارج العصر ينسبون ذلك إلى السنة والأئمة.
وأما ما ادعاه من تبديع القائلين بنصيحة الإمام سرا لا جهرا، وعزاه للأئمة، فقد نادى به على نفسه بعظم الجهل، ومنهج الافتراء على السنة والأئمة، وإلا فالسنة فيه أوضح من شمس النهار، والأقوال والآثار لا تخفى على من له أدنى اطلاع، فعن عياض بن غنم – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ”([33]).
وهذا الحديث أصل في إخفاء نصيحة السلطان ،وأن الناصح إذا قام بالنصح على هذا الوجه، فقد برئ وخلت ذمته من التبعة. “قال العلامة السندي في حاشيته على مسند الإمام أحمد: قوله: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ”: أي نصيحة السلطان ينبغي أن تكون في السر، لا بين الخلق”([34]). وقال الشوكاني رحمه الله: “ينبغي لمن ظهر له غلط في بعض المسائل أن تناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد، بل كما ورد في الحديث: أنه يأخذ بيده ويخلوا به، ويبذل له النصيحة، ولا يذل سلطان الله”([35]). وعن زياد بن كسيب العدوى، قال: “كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر – وهو يخطب وعليه ثياب رقاق -، فقال أبو بلال([36]): انظروا إلي أميرنا يلبس ثياب الفساق! فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ” “([37]).
فهذا الخارجي أنكر على الإمام أمام الناس، فأسكته الصحابي – رضي الله عنه – وبين له أن هذا من إهانة السلطان، وأن من فعل ذلك فإن الله سيهينه، فهل يعتبر خوارج العصر بهذا ويستبينوا سبيل أسلافهم المعوج؟!!. وعن سعيد بن جُمْهَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ وَالِدُكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، لَعَنَ اللهُ الْأَزَارِقَةَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – “أَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ”، قَالَ: قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ وَحْدَهُمْ أَمِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا ؟ قَالَ: “بَلِ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا”. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ “وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ، فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ”([38]).
فتبين من هذا أن المجاهرة في نصيحة ولاة الأمر من مذهب الخوارج، وليست من مذهب أهل السنة في شيء، فالإمام لا ينكر عليه علانية، ولا يسب، ولا يشغب عليه، ولكن ينصح خفية، هذا هو جهاد أهل الحق، فإن كنت صادقا مخلصا محبا لوطنك ولإمامك وللناس، فانصح في السر، ابتغ وجه ربك، فهذا هو الجهاد، فقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أفضل الجهاد؟ فقال: “كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ”([39]).
وتأمل قوله – صلى الله عليه وسلم -: “عِنْدَ إِمَامٍ”، وليس في الفضائيات، ولا في الإذاعات، ولا في مواقع الشبكات، ولا على المنابر والصحف والمجلات، وهذا مع جور الإمام وظلمه، فكيف بمن هو خير منه؟ كيف يُشغَّب عليه في الملأ، فأسأل الله أن يتم علينا نعمه، ويحفظ بلادنا من كل سوء وفتنة، ومن كل بلاء ومحنة، والحمد لله رب العالمين.
————————–
[1]() منهاج السنة (4/530).
[2]() رواه ابن ماجه، كتاب السنة، باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ح(42)، واللفظ له، وأبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، ح(4607)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، ح(2676)، والبزار ح(4201).
[3]() رواه أحمد، ح(17141) قال الأرناؤوط: “حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد حسن”. وابن ماجه، كتاب السنة، باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ح(43).
[4]() رواه البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ح(7084)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، ح(1847).
[5]() شرح مسلم (12/237).
[6]() فتح الباري (13/36-37).
[7]() رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»، ح(3792)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة، ح(4885).
[8]() رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، ح(4331)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، ح(2483).
[9]() فتح الباري (8/52).
[10]() رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، ح(3603)، ومسلم، كتاب الإمامة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، ح(1843).
[11]() منهاج السنة (3/392).
[12]() شرح مسلم (12/232).
[13]() رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، ح(1855).
[14]() رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب ف طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق، ح(1846).
[15]() شرح مسلم (12/225).
[16]() رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة، ح(1847).
[17]() رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – «سترون بعدي أمورًا تنكرونها»، ح (7053).
[18]() شرح مسلم (12/225).
[19]() فتح الباري (13/7).
[20]() رواه البخاري ح(6647)، ومسلم ح(1709).
[21]() إعلام الموقعين (3/12).
[22]() مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص(271).
[23]() مقدمة فتح الباري ص(459).
[24]() مجموع الفتاوى (35/51).
[25]() رواه البخاري ح(4094).
[26]() السيل الجرار (4/415).
[27]() رواه ابن حبان في الثقات (5/314-315)، وابن عبدالبر في التمهيد (21/287).
[28]() معاملة الحكام ص(151-152).
[29]() رواه البيهقي في الشعب (7/48)، وابن عبدالبر في التمهيد (21/287).
[30]() رواه البخاري في التاريخ الكبير (8/104).
[31]() رواه ابن زنجويه في الأموال (1/80).
[32]() معاملة الحكام ص(159).
[33]() رواه أحمد ح(15333).
[34]() معاملة الحكام ص(123).
[35]() السيل الجرار (4/556).
[36]() هو مرداس بن أدية أحد الخوارج.
[37]() رواه الترمذي ح(2224).
[38]() رواه أحمد ح(19415).
[39]() رواه أحمد ح(18828).