ما الذكر؟ ولماذا كان حضوره بهذه القوة في هذا الدين الكامل؟ هذا هو محور حلقتنا هذه إن شاء الله تعالى. الذكر في اللغة يراد به أحد معنيين: التذكر أو التعظيم، تقول: ذكرت الشيء أي استحضرته وتذكرته، وكذلك تقول: فلان مذكور عند قومه، أي معظم عند قومه، ومنه قوله تعالى: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم﴾، وقال تعالى: ﴿ص والقرآن ذي الذكر﴾، أي ذي العظمة. فالذكر يأتي بهذين المعنيين: التذكر، والتعظيم، فأي المعنيين هو المراد بذكر الله؟ لا شك أن كليهما مراد، فذكر الله تعالى فيه تذكر له سبحانه وفيه تعظيم له سبحانه، فذكر الله تعالى هو تذكر عظمة الله. ولعلك أخي المستمع أختي المستمعة تلاحظ التلازم بين التذكر والعظمة، فإنك إذا عظمت شيئا أكثرت من ذكره، وإذا أكثرت من ذِكر شيء دل على أنه عظيم عندك. فالمقصود من الذكر أن يلازم قلبَك تعظيم الله تعالى، وسبب ذلك أن دين الإسلام مبني على توحيد الله تعالى، فإذا كان قلبك ملازما لتعظيمه سبحانه لم يلتفت إلى غيره، فبذلك تصير عباداتك وحركاتك وسكناتك لله سبحانه. كما قال تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحايي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين﴾. ثم إذا كان قلبك ذاكرا لله على الدوام، مستحضرا عظمته في كل حال، سهل عليك اتباع أوامره سبحانه وترك مناهيه، بخلاف القلب الغافل، قال تعالى: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين﴾. ولذلك تلاحظ أن السنة جاءت بذكر الله تعالى كثيرا، فإنه يستحب لك إذا قمت أن تذكر الله، تذكره … أي تستحضرُ عظمته سبحانه، ومن المعلوم أنك إذا استحضرت عظمته … استحضرت عبوديتك له سبحانه، فاستحضار ذكر الله تعالى يستلزم استحضار عبوديتك، والعبودية تستلزم الانقياد والذل للمعبود سبحانه، وهو فعل الأوامر وترك النواهي. فإذا استيقظت الله وقلت: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، تستحضر أولا وقبل كل شيء عظمة الله تعالى، وتستحضر عبوديتك مقابل هذه العظمة. ثم مع ذلك تستحضر المعنى الخاص في هذا الذكر، وهو فضل الله تعالى عليك بأن أحياك بعدما أماتك، وأن هذه الحياة بعد الموت هي مثال أصغر للبعث يوم القيامة. فكل ذكر في الشريعة يشتمل على هذين المعنيين ولا بد، معنى عام وهو تذكر عظمة الله تعالى، التي يقابلها تذكر عبوديتك، ثم بعد ذلك معنى خاص لذلك الذكر يوافق المناسبة التي يقال الذكر فيها. فمن السنة إذا أصبحت أن تذكر الله تعالى، وإذا دخلت الخلاء أن تذكر الله، وإذا خرجت من الخلاء تذكر الله، وإذا توضأت تذكر الله تعالى، وإذا صليت فالصلاة كلها ذكر، وإذا خرجت من البيت ذكرت الله، وإذا دخلت البيت ذكرت الله، وإذا لقيت صاحبك قلت: السلام عليكم ورحمة الله، وهذا ذكر، وإذا أمسيت ذكرت الله تعالى، وهكذا لا يزال المؤمن يتقلب في ذكر الله تعالى يومه كله، حتى ينام، وحتى قبل أن ينام يذكر الله تعالى، ليكون ذكر الله تعالى آخر شيء في يومه كما كان أول شيء في يومه. وهكذا يفعل المحبون، دائما يذكرون من يحبون، حتى إذا أووا إلى فراشهم ذكروا المحبوب، وإذا قاموا هجم عليهم ذكر المحبوب، فهم في ذكر دائم لمن يحبون، قال تعالى: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (١٩٠) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم﴾. والمقصود أن الإسلام يغرس في قلب المؤمن عبودية الله تعالى وتعظيمه في كل حين، ولذلك كان مَن داوم على الذكر من أعظم عباد الله تعالى وأحبهم إليه، خرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات». وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها لدرجاتكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهب والورِق، أي الفضة، وخير لكم من أن تلقَوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربون رقابكم؟ ذكر الله عز وجل»، صححه الألباني، ورجح بعض العلماء وقفه، وله حكم الرفع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه «كالإجماع بين العلماء: أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة» قال: «والدلائل القرآنية والإيمانية بصراً وخبراً ونظراً على ذلك كثيرة»، اهـ كلامه رحمه الله. أخي المسلم أختي المسلمة، إذا علمت ما سبق، فحاول ألا يكون ذكرك لله تعالى بلسانك فقط دون تحرك قلبك بعبودية الله تعالى. فإن القلب هو محط نظر الله تعالى، ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».